الغرب قال كلمة واحدة: نحن مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة، ولن نتوانى عن توفير كلّ الدعم المتاح لها عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً وإعلامياً ومادياً

في لحظة الحرب الحاسمة في غزة، سقطت التحفّظات الأميركية عن حكومة بنيامين نتنياهو ووزرائه المتشدّدين أمثال سموتريش وبن غفير، ووقف صنّاع السياسة في واشنطن صفّاً واحداً خلف إسرائيل، لا فرق بين ديموقراطي أو جمهوري إلّا بمقدار الدّعم اللامحدود الذي يقدّمه للدّولة العبرية، والتعاطف مع إسرائيل وتصويرها في مقام الضحية. هذا الدّعم أظهر "مكارثية" جديدة، وهذه المرّة ليس ضدّ الشيوعية العالمية، بل ضدّ الفلسطينيين والعرب. أمّا الإعلام الغربي عموماً والأميركي خصوصاً فقد خلع رداء الموضوعية والمهنية، وكان أشدّ لؤماً في حرف الأنظار عن حقيقة القضية، وقلب الصورة وجعل الجلّاد ضحية والضحية جلّاداً. أوروبا كانت المفاجأة الكبرى، كشفت عن وجه سافر، وأسقطت كلّ المقولات عن الإنسانية، واصطفّت خلف إسرائيل بشكل غير مسبوق، وخلطت ما بين الموقف من المهاجرين والقضية الفلسطينية، وتعاملت مع الضحايا الفلسطينيين كأرقام فقط وليس كبشر لدى كلّ منهم قصّة وحياة وأهل وأقارب.

الغرب قال كلمة واحدة: نحن مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة، ولن نتوانى عن توفير كلّ الدعم المتاح لها عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً وإعلامياً ومادياً. وذهب الرئيس جو بايدن إلى أبعد عندما قال أنّه لو لم يكن هناك إسرائيل لوجب علينا إقامتها، بمعنى أنّ هذا الكيان هو رأس حربة الغرب في تثبيت سيطرته على المنطقة وفرض إرادته عليها.

في المقابل، كان موقف من يفترض أنّهم مع الفلسطينيين خجولاً ضعيفاً يمكن اختصاره بكلمة "لعم"، أي لا ونعم معاً. لا لتهجير جديد للفلسطينيين، من دون أن تظهر "لا" واضحة ضدّ قتل المدنيين وقصف بيوتهم. "الخط الأحمر" العربي توقّف عند التهجير والترانسفير، لم يشمل المجازر واستهداف المدنيين، وكأنّ العرب بذلك يقولون مسموح إبقاء الفلسطينيين في قفص غزة وقتلهم فيه، لكنّ تهجيرهم خطّ أحمر. كما أظهرت بياناتهم المصاغة بعناية ولاسيما تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية، وكأنّها وسيط محايد يتدخّل لحلّ مشكلة بين خصمين متعادلين في القوة، وفي الحق، وفي الشرعية، يقفان على مسافة متساوية من كاتب النصّ.

حكومة نتنياهو الحربية قابلت الموقف العربي الخجول والوسيط بازدراء

نفهم أنّ دولاً لديها مشكلة مع "حماس" ولا تريد أن تراها تنتصر، وتتبوّأ مكانة بين مناصري القضية والكفاح المسلّح حتى لا تصير قبلتهم الجديدة، ونفهم أنّ دولاً غارقة في التطبيع حتى النّخاع وتخشى إن خسرته أن تفقد بعض الفتات الذي تظنّ أنّها تناله من ورائه، ونفهم أنّ دولاً تحاذر أن يعزز انتصار الحركة الإسلامية أو خروجها واقفة على رجليها من أتون غزة ، نفوذ حليفتها الأساسية إيران في المنطقة، ويمنحها أوراق تفاوض أقوى على حساب العرب، أو أن يؤدّي ذلك إلى إعطاء الجماعة الإخوانية في الإقليم جرعة قوّة تعيد خلط الأوراق في العواصم والشوارع العربية. لكن ما لا يمكن فهمه أبداً هو أنّ تراخيهم اليوم سيشرّع غداً أبواب تهجير أهل الضفة وفلسطينيي 1948 بأيّ ذريعة كان، تمهيداً لإقامة دولة إسرائيل اليهودية الكبرى على كامل أرض فلسطين.

حكومة نتنياهو الحربية قابلت الموقف العربي الخجول والوسيط بازدراء، أوقفت الإمدادات الإغاثية لغزة متى شاءت وسيّرتها متى شاءت أيضاً، وواصلت سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية في القطاع، بلا رادع لأنّ من في يده القدرة على الردع يتلهّى بقشور الممكن وغير الممكن. نعم في استطاعة العرب الردع من دون شنّ حرب. يكفي وقف التطبيع وسحب السفراء كي تعيد تل ابيب الكثير من حساباتها.

طموحات إسرائيل لا تقف عند حدود. لا تخف إرادتها أن تكون دولة عظمى في زمن التنافس على نظام عالمي جديد. ترى نفسها تتمتّع بكلّ القدرات لحجز مقعد لها بين الكبار على حساب الدول العربية والآخرين في الشرق الأوسط. هي وحدها من بين دول الإقليم تملك القدرة النووية الهائلة والتكنولوجيا العسكرية المتقدّمة. وأضاف اكتشاف الغاز في الشواطئ التي تحتلّها تعزيزات لقدراتها. وحصّنت موقعها بتطبيع مجّاني مع رهط من الدول العربية، تبيعهم بموجبه أوهام توفير الحماية والرضى الغربي، مقابل الحصول على الشرعية الكاملة وحرية العمل والاستثمار والإفادة الاقتصادية في مساحة هائلة. واكتملت دائرة التوسّع الإسرائيلي عندما توّجت واشنطن ميناء حيفا محطّة رئيسية في الممرّ العالمي الحيوي بين الهند وأوروبا على حساب طريق الحرير الصيني.

"طوفان الأقصى" يوم 7 تشرين الأوّل كشف كم أنّ هذا الكيان ضعيف، وغير قادر على توفير الحماية لنفسه وللإسرائيليين. أظهر "عقب أخيل" الذي كان مخفياً في الجسد الإسرائيلي. كان يتعيّن على العرب والمتعاطفين مع القضية إيرانيين أم أتراك أو غيرهم العمل على توسيع هذا الثقب، لا حبّاً بحماس بل لإبقاء الدولة العبرية تحت عبء الهاجس الأمني، والحفاظ على الحدّ الأدنى من التوازن المختلّ بين من هم مع إسرائيل ويؤيدونها بلا لبس ومن هم مع فلسطين وإبقاء شعلة قضيّتها متّقدة.

من شأن تضييع فرصة كهذه والغوص في متاهات المزايدات الشعبوية الفارغة من أيّ مضمون، منح إسرائيل جرعة بقاء ومواصلة السير في خططها الجهنّمية التي لن توفّر أحداً من شرورها في محيطها الإقليمي الواسع.