لدينا لا وعي جماعي لدى الأجيال الجديدة التي توارثت العصبيّة والقبليّة والافكار النمطيّة من أهلها...

تغريدة واحدة كانت كفيلة بإشعال مواقع التواصل الإجتماعي وفتح الباب على إشكاليّة ذات أهميّة كبرى ألا وهي وجوب التضامن من عدمه مع القضيّة الفلسطنيّة.

حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لمنشور، حمل توقيع عضو تكتّل الجمهوريّة القويّة النائب كميل شمعون، أرفقه بصورة من مجزرة الدامور1976، والتي قتل فيها الفلسطينيّون آنذاك 582 مدنيّاً، من المسيحيّين، وعلّق عليها بالقول "هيدي مشان يلي وجعو قلبو، قطرة دمّ من كل شهيد بتسوى كلّ فلسطين". لتعود وتختفي التغريدة من على حسابه الرسمي على تويتر، فيقول البعض إنّها مفبركة. ولكن وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا التصريح صادر عن شمعون أم ألصق به، فمّما لا شكّ فيه أنّ قسماً كبيراً من المواطنين اللبنانيين يجدون صعوبة بالتعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة، والضحايا من المدنيّين الفلسطينيين الذين يسقطون في غزّة.

الحرب الأهلية اللبنانية

ولذلك أسباب كثيرة، تعود جذورها إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة. حيث كان للطرف الفلسطيني دوره المحوري فيها. بعد رفض الموارنة الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، واستخدام الأراضي اللبنانيّة كساحة معركة لصراع خارجي. 

وكان النزوح الفلسطيني إلى لبنان قد بدأ منذ العام 1948. وكان عدد النازحين الفلسطينيين آنذاك 106,753 بحسب أرقام منظّمة "الأونروا". بالإضافة إلى 25 ألفا من غير المسجّلين. وسرعان ما ارتفع العدد إلى 400 ألف فلسطيني نتيحة موجات النزوح الجديدة بعد حرب الستة أيّام التي هزمت فيها إسرائيل العرب، أو ما عرف بالنكسة 1967. وساهمت النكسة في تعزيز فكرة الكفاح الشعبي المسلّح، ليتصاعد العمل الفدائي، ويصبح الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان حقيقة منذ العام 1968، حيث جاء اتفاق القاهرة في العام 1969 لينظم العمل الفلسطيني المسلّح ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقاً من الأراضي اللبنانية.

الوجود الفلسطيني في لبنان

ومرّ الوجود الفلسطيني في لبنان بمرحلتَين متميزتَين، ومتناقضتَين. المرحلة الأولى، هي الفترة بين هزيمة 1948 وقيام الثورة الفلسطينية، في أوائل 1965. والمرحلة الثانية، هي الفترة التي تلت قيام الثورة. فخلال المرحلة الأولى، كان الفلسطيني نازحاً في المخيمات، يتلقّى المساعدة الاجتماعية من وكالة الإغاثة، وغيرها من المؤسسات. وأمّا في المرحلة الثانية، فقد كان ثائراً، يحمل سلاحه، دفاعاً عن وجوده وقضيته. ولا شكّ أن هذا التغيير، ترك آثاره في العلاقات بين الفلسطينيين واللبنانيين، على كلّ المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد كانت العلاقات، في المرحلة الأولى، علاقات بين مواطنين ونازحين، لكنهّا أصبحت، في المرحلة الثانية، علاقات بين مواطنين وثوار وأحزاب لبنانيّة ومنظّمات فلسطينية مسلّحة.

وهو ما رفضه قسم كبير من اللبنانيين، وعلى رأسهم الأحزاب المسيحيّة، التي تخوّفت من مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان على حساب تهجير المسيحيين، في ظلّ ما كان يتم الترويج له من مشروع الوطن البديل. خصوصاً بعد ازدياد الأعمال الفدائيّة في لبنان.

كانت حادثة بوسطة عين الرمانة الفتيل الذي أشعل الحرب بين الأحزاب اليساريّة (والتي جمعت الحركات الفلسطنيّة، والأحزاب اللبنانيّة الداعمة للقضيّة الفلسطنيّة) والأحزاب اليمينيّة (الرافضة للوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان). وتعددت الروايات حول ما جرى يومها بين فريق يقول أنّ رئيس حزب الكتائب بيار الجميل لمحاولة اغتيال في 13 نيسان 1975، وبين من يقول أن ما جرى حصل نتيجة محاولة مرور أحد المنتمين إلى إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية آنذاك بالمنطقة حيث كان يقام احتفال بتدشين كنيسة، وعند منعه حاول اقتحام الحاجز فأطلق مسلحون النار عليه ما أدى إلى إصابته، ليحضر من بعدها سيارة مدنية من طراز فيات تقلّ أربعة مسلحين قاموا بإطلاق النار عشوائيًا فقتل الكتائبيين جوزيف أبو عاصي وأنطوان الحسيني ومواطنين آخرين وجرح سبعة. ردّت عناصر الكتائب والاحرار على المسلّحين فقتلوا واحداً وجرحوا آخرين. وعند تمام الساعة الواحدة وفي المنطقة نفسها، واثناء عودة حافلة ترفع أعلاماً فلسطينية تبيّن لاحقاً أنّه على متنها 30 فلسطينياً شاركوا في مهرجان كان يقام في الشطر الغربي من العاصمة. تم إمطار الحافلة بالرصاص ما أدّى إلى مقتل 27 ممّن كانوا على متنها. على أثر ذلك إجتمعت القوى اليسارية اللبنانية في منزل محسن دلول وأعلنوا تضامنهم مع الثورة الفلسطينية وطالبوا بعزل حزب الكتائب، وإقالة وزرائه وإقتحام عين الرمانة لإعتقال القتلة، وعند العاشرة مساءً قصفت عين الرمانة والدكوانة بقذائف الهاون.

لتبدأ بعدها سلسلة من المجازر بين الفريقين وأبرزها: مجزرة الكرنتينا 1976، مجزرة الدامور 1976، مجزرة تلّ الزعتر 1976، مجزرة صبرا وشتيلا 1982.

تصريحات لناشطين وسياسيين ضدّ الفلسطينيين

هي إذن أحداث الحرب الأهليّة التي تسكن في ذاكرة بعض اللبنانيين، وخصوصاً أبناء بعض الأحزاب المسيحيّة. فتمنعهم من التعاطف مع ما يحصل في فلسطين اليوم. ويخشى هؤلاء أن يعيد التاريخ نفسه، فيرفضون من جديد أيّ استخدام مسلّح للأراضي اللبنانيّة باتجاه اسرائيل، وأيّ تظاهرة مناهضة للأحداث في غزّة. 

وهو ما ظهر واضحاً على لسان سياسيين ومواطنين لبنانيين. ومنهم المسؤول الإعلامي في حزب القوات اللبنانيّة شارل جبّور، الذي علّق على التظاهرات المندّدة بالقصف الاسرائيلي على فلسطين، والتي قام بها عدد من الفلسطنيين واللبنانيين، أمام بعض السفارات الاجنبيّة في لبنان ومنها السفارة الأميركيّة في عوكر، ونتج عنها أعمال شغب من تكسير وتحطيم وإشعال للأملاك العامّة والخاصّة، بالقول "طلع خلقنا منكم، على مناطقنا ما بقا تقرّبوا"، متخوّفا من قرارات بعض الأحزاب تحويل لبنان إلى غزّة وتمّوز 2006.

كما علّق أحد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بالقول "ما كتبه كميل دوري شمعون عن مجزرة الدامور وعدم التضامن مع القضية الفلسطينية اثار حفيظة البعض. وأتى الردّ عليه كالعادة سفيه. إنّما ما خبّرونا المتضامنين والمتعاطفين والبكائين شو المطلوب منّا بالظبط؟ اللطم مثلاً؟ أو الذهاب الى الحدود ورشق الحجارة؟ أو إطلاق الشتائم والكلام السفيه مثلهم؟ لك إذا العندو 100 ألف مقاتل ما سمعنا صوتو روقو شوي وحطّو إجريكن على الأرض لبنان مش فلسطين ولا رح يكون".

بدورها شاركت إحدى الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو للعدوان الحاصل على غزّة ومشاهد القتلى والجرحى وعلّقت بالقول "نحنا صار فينا هيك وأكتر. بكفي مزايدات. الفرق إنّو هلق صار في وسائل تواصل. مين في ينسى اول الشهداء ‎جوزيف بو عاصي؟ مين في ينسى مجزرة الدامور وشكا ومجدليا (قضاء زغرتا). مين في ينسى إنّو طريق القدس بتمرّ بجونية (بس فشرو). بيكفينا يلي فينا ازمة اقتصادية وازمة نزوح سوري. وأرفقت منشورها بهاشتاغ لبنان اوّلا، ولبناني متطرّف".

 تنميط يكتسبه الفرد من محيطه، وأهله، وتجاربه ويسقطه على فئة معيّنة من المجتمع. ويمنعنا من رؤية الأمور بطريقة انسانيّة وشفافة

الأثر النفسي للحروب

للحروب آثارها النفسيّة البعيدة المدى، وهو ما تؤكّده المتخّصصة في علم النفس، الدكتورة لانا قصقص، في حديثها لموقع "الصفا نيوز"، مشيرة إلى أنّ "التأثير النفسي للحروب لا يقتصر على الفترة التي تحدث فيها الحرب بل يتعدّاها إلى صدمات ما بعد الحرب، تترجم بآثار بعيدة المدى، تظهر اليوم لدى بعض اللبنانيين من خلال عدم تعاطفهم مع الفلسطينيين. حيث أنّ مخططاتهم المعرفيّة الفكريّة لا تزال تحمل صوراً وأفكاراً مؤذية، عاشوها وصدّقوها وجعلتهم يحملون أحكاماً على شعب كامل، ويتبنّونها ويورّثونها لأجيالهم القادمة. فعدم التعاطف من قبل بعض اللبنانيين تجاه الفلسطنيين لا ينحصر بجيل الحرب، بل يظهر لدى جيل الشباب أيضا، الذي ينشر عبارات غير متعاطفة ومسيئة ومهاجمة للفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي. فيما ما يحصل في غزّة هو موضوع انساني، ولا يجب أن يحمل في طيّاته تحليلات، إلاّ أنّ ذلك يؤكّد الحجم الكبير لآثار الحرب التي خرّبت بناء المعرفة لدينا. وسمحت بتشويه أحكامنا حول حقيقة معيّنة وتحميلها حوادث من الماضي والسّماح لها بالتأثير على موقفنا من أحداث آنيّة. لا بل تعميم هذه الموروثات لتتناسب مع ما عاشوه. وهو نوع من تنميط يكتسبه الفرد من محيطه، وأهله، وتجاربه ويسقطه على فئة معيّنة من المجتمع. ويمنعنا من رؤية الأمور بطريقة انسانيّة وشفافة".

كما تشير الأبحاث بحسب قصقص، إلى أنّ "الحروب لا تدمّر فقط الأشخاص بل المجتمعات. والحديث عن تدمير المجتمعات، يشمل الخصائص الديمغرافيّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، التي تتبنى أفكاراً معيّنة بناء على الحرب التي عاشتها وتستمرّ هذه الأفكار لأجيال وتؤثّر على مواقف الشعوب من أيّ قضيّة. ويصبح دماغ الفرد عاجزاً عن التحليل المنطقي للأمور، عبر فصل التجارب الشخصيّة عن الحالة التي أريد أن أسجّل موقفاً أو رأياً حولها، بل أكوّن رأي كمتضامن من عدمه، من خلال ما اكتسبته من تجارب شخصيّة وأحكام وقصص وروايات سمعتها ومن خلال ما عشته".

كما أنّ الأطراف الذين لديهم مشاكل مع الفلسطينيين، تضيف قصقص، كانوا أطرافاً مشاركين في الحرب وتابعين لأحزاب معيّنة، ومنخرطين بجبهة ضدّ أخرى. وعندما نتحدّث عن جنود أو مقاتلين نتحدّث عن تأثيرات متعلّقة بتعاطف وهو ما أثبتته دراسات معيّنة. والتي تحدّثت عن أنّ الأشخاص الذين شاركوا في الحروب يكون لديهم صعوبة في تقييم مشاعرهم، وإظهار مشاعر معيّنة بعد سماع أو مشاهدة تجارب مؤسفة للآخرين. كما أكّدت الدراسات أنّ المقاتلين يعانون من انخفاض بنسبة 70% لنسبة التعاطف لديهم. ويظهر لديهم سلوك عدائي واضح، ينمّي مشاعر القلق لديهم، ويمنعهم من فهم مشاعر الآخرين. وهؤلاء المحاربين القدامى نقلوا أحكامهم، وعدائيّتهم لأجيال الشباب الذين بدورهم تبنّوا هذه الأفكار. فأصبح لدينا لا وعي جماعي لدى الأجيال الجديدة التي توارثت العصبيّة والقبليّة والافكار النمطيّة من أهلها".

كيف ننظر إلى القضايا وأحقّيتها

التعاطف مع القضايا المحقّة يتطلّب أوّلاً رؤية الإنسان الذي يرفع شعارها. وحين يكون الحال كما هو الوضع في لبنان الذي شهد الكثير من المواجهات والحروب والإنقسامات تحتاج الرؤيا السليمة للكثير من الجهد. فغبار الأحداث والخسائر المادية والبشرية والإحساس بالقهر والظلم، والطريقة التي انتهت من خلالها الحرب الأهلية في لبنان، من دون مصالحات حقيقية ومن دون حتى اعتراف أغلب الفرقاء بما ارتكبوه من مجازر، ترك الكثيرين بحالة حداد وحزن بل وحقد لم يخرجوا منها. في لبنان من لا زال يتحدّث عن المفقودين خلال الحرب الأهلية، منهم من يتحدثون عن وجود بعضهم في السجون السورية، ومنهم من يرفض التصديق فكرة انتهاء العشرات بل المئات في مقابر جماعية. هناك كثر لا زالوا ينتظرون عودة بعض من فقدوا أثره خلال تلك الحرب. هؤلاء وغيرهم ممن جُرح أو خُطف أو حمل السلاح دفاعاً عن موقف أو حزب، هؤلاء يحتاجون للوقت يحتاجون لبذل الكثير من الجهد لرؤية القضايا كما هي، من دون تحيّز، أو أحكام مسبقة. التعاطف مع قضية الفلسطينيين في غزة تتطلّب من هؤلاْ أن ينظروا إلى الأطفال والنساء وكبار السن على أنهم أطفال ونساء وكبار في السن، لا كبشر كانوا يكنّون لهم العداء. حين نرى الإنسان الذي يدافع عن حقه كإنسان لا كهوية حينها نكون قد تصالحنا مع أنفسنا وتركنا أحقادنا خلفنا.