الإعلام الأجنبي اعتاد تصنيف الشعوب، وتقسيمها إلى مراتب، فاعتبروا شعوب الدّول النامية مواطنين درجة ثانية. وهذا الفكر الذي عملت وسائل إعلام الغرب على تسويقه على مدى عقود من الزمن، هو الذي سمح لوزير الحرب الاسرائيلي يوآف غالانت بوصف الفلسطينيين بالحيوانات البشريّة، دون أن يخشى التعرّض لانتقادات من قبل الصحافة أو المنظّمات الدوليّة.
أعادتنا التغطية الإعلاميّة الغربيّة للحرب الإسرائيليّة على غزّة أو بحسب هؤلاء "حرب غزّة على إسرائيل"، إلى الأسلوب العنصري الذي استخدمته الوسائل نفسها في تغطيتها للحرب الأوكرانيّة. حين انهالت علينا بعواطفها الجيّاشة تجاه أصحاب "البشرة البيضاء والعيون الزرقاء" الذين هُجّروا نتيجة القصف الروسي على أوكرانيا، فيما لم تظهر هذه العاطفة في حديثها عن أصحاب البشرة السمراء والعيون السوداء، أيّ اليمنيّين، والسوريين والعراقيين، والفلسطينيين الذين بدورهم كانوا ضحايا حروب وعانوا من التهجير واضطرّوا إلى النزوح نحو دول الغرب أو بعض الدول العربيّة. ولعلّ السبب، يعود إلى أنّ الإعلام الأجنبي اعتاد تصنيف الشعوب، وتقسيمها إلى مراتب، فاعتبروا شعوب الدّول النامية مواطنين درجة ثانية. وهذا الفكر الذي عملت وسائل إعلام الغرب على تسويقه على مدى عقود من الزمن، هو الذي سمح لوزير الحرب الاسرائيلي يوآف غالانت بوصف الفلسطينيين بالحيوانات البشريّة، دون أن يخشى التعرّض لانتقادات من قبل الصحافة أو المنظّمات الدوليّة.
ومثال آخر على ذلك ما ورد على لسان نائب المدّعي العام الأوكراني السابق، ديفيد ساكفاريليدزي، في حديثه لقناة بي بي سي، يوم السبت 26 شباط، حين قال إنّه "أمر مؤثر للغاية بالنّسبة لي أن أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يُقتلون"، ليجيبه المذيع "أنا أتفهّم هذه المشاعر وبالطبع أحترمها".
نعم إنّها سياسة الرّجل الأبيض، الذي يصنّف نفسه كأفضل شعوب الأرض وأفهمها. فهو من يورّد لنا الحضارة، وهو من يعلّمنا الديمقراطيّة والثقافة، فيما نحن برأيه شعوب جاهلة تعيش في نعم كرمهم ومساعداتهم.
ذريعة حقوق الإنسان وازدواجية المعايير
هم نفسهم من يستخدمون شرعة حقوق الإنسان ذريعة، لتبرير أعمالهم الوحشيّة، أو فرض أجنداتهم الخاصّة في الدّول النامية، ها هم اليوم يتلطّون خلفها مرّة جديدة، بمعايير مزدوجة فيدافعون من خلالها عن الضحايا المدنيين من الاسرائيليّين ويغضّون بصرهم عن الضحايا المدنيين الفلسطينيين. لا بل يوصّفونهم بالإرهابيّن، ويتنكّرون لحقوقهم ونكبتهم، وحقيقة إسرائيل التي أقيمت على أنقاض الشعب الفلسطيني، وعمليات المحو، التهجير والقتل. ويزيّفون التاريخ وحضارته، ويتناسون طبيعة إسرائيل العنصرية وتهجيرها وطردها 700 ألف فلسطيني في العام 1948.
هو ما تجلّى بوضوح في جلسة الكنيست الإسرائيلي، التي عقدت منذ يومين، حيث جرت مقاطعة النائبة العربيّة عايدة توما سليمان مرّات عدّة، لمجرّد مساواتها بين حياة الأطفال الإسرائيليين والفلسطينيين. حين قالت: الطفل طفل بغضّ النّظر ما إذا كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. لتردّ النائبة ميراف بن أري بصراخ وغضب قائلة: لا مساواة في هذه القضية وأنّ الأطفال في غزّة هم من جنوا على أنفسهم.
اكذب اكذب حتّى يصدّق الناس
معتمدة أسلوب من سوّق لحرق اليهود، جوزيف غوبلز، بوق الإعلام النازي، بالكذب والكذب حتى تصبح الكذبة حقيقة، صنعت إسرائيل الاكاذيب، فكرّرها مشاهير العالم، ونقلتها وسائل الإعلام العالميّة من صحف وتلفزيونات وإذاعات، دون التأكّد من المصدر، فتبنّاها رؤساء الدول ومن بعدهم الشعوب. وهو ما حصل في إشاعة قتل "حماس" وقطعها لرؤوس 40 طفلاً واغتصابها للنساء الإسرائيليّات. وهي الكذبة التي أطلقها ديفيد بن صهيون مستوطن اسرائيلي متطرّف وعسكري في الجيش الاسرائيلي، وروّج لها في حديثه لإحدى الصحافيات العاملات في مجلّة The Independent البريطانيّة، وتدعى بيل ترو. والتي نشرت القصّة دون التأكّد من مصدرها، لتتصدّر في ما بعد عناوين الصحف ونشرات الأخبار لدى الإعلام الغربي. فيتبنّاها رئيس الولايات المتحدّة جو بايدن بنفسه. ويؤكّد أنّه شاهد هؤلاء الأطفال، ليخرج البيت الأبيض بعدها وينفي الخبر، بعد قيام عدد من الصحافيين الاستقصائيّين بالبحث في أصل القصّة والتأكّد من أنّها كذب. إلّا أنّه وعلى الرّغم من ذلك لم تمسح الفيديوهات ولم تعتذر أي ّوسيلة إعلاميّة عن نشرها لخبر كاذب. فيما استخدم العدو الإسرائيلي هذه الكذبة لتشريع قصفه للمدنيين الفلسطينيين وتضييق خناق الحصار الاقتصادي على غزّة. ومثال آخر عن تأثير أكاذيب العدوّ، بدا واضحا في التغريدات ومواقف النجوم الغربيين الذين وفي معرض دفاعهم عن إسرائيل استخدموا صوراً لأطفال غزّةّ! ما يؤكّد كميّة تأثير الإعلام الغربي، على صناعة رأي عام أحمق، يناصر الظالم على حساب المظلوم، دون الاطّلاع على حقائق القضيّة.
وفي هذا الإطار التقينا أحد اللبنانيين العاملين لصالح مؤسسة إعلامية غربية فضّل عدم الكشف عن اسمه خوفاً من أن يخسر عمله، خصوصاً في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد. ويقرّ الرجل بأنّ الوضع صعب جدّا فالأمر لا يتعلّق فقط بطبيعة المادّة التي ينتجها وكيف يتمّ التدخل فيها وإعادة تحريرها بما يخدم الرواية الغربية للأحداث، فالأمر وصل إلى ملاحقة ما يتمّ نشره على الحسابات الخاصة به على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو يخشى التعبير عن رأيه الشخصي لأنّه قد يخسر عمله. ويعطي مثالاً ما حدث مع أربعة من العاملين لصالح الـ بي بي سي بينهم لبنانيتين حيث فتح تحقيق معهم بسبب منشورات على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. كما علّقت شبكة "أم أس أن بي سي" عمل ثلاثة محاورين لأنهم من أصول إسلامية. كما لا بد أيضا من استذكار ما حصل قبل نحو عامين مع عدد من العاملين مع مؤسسة "دويتشه فيله" التي أوقفت نحو 6 صحافيين عن العمل بينهم لبنانيين اثنين وعادت لتوقف التعاون مع ثالث متهمة إياهم بمعاداة السامية بسبب تضامنهم مع القضية الفلسطينية وانتقادهم للمجازر التي ارتكبتها إسرائيل. وأعلنت المؤسسة أنها ترفض أي اتهام لإسرائيل وأي انحياز ضدّها، بل واشترطت للعمل معها جملة من الأمور التي تتعارض حتّى مع القوانين اللبنانية التي تصنّف إسرائيل كعدو يحتلّ أراض لبنانية.
وبحسب الصحافي نفسه "أصبح من الصعب مواجهة الرواية الإسرائيلية للأحداث في ظلّ هذا التضامن الغربي الإعلامي بكلّيته مع الاحتلال وتجاهله التّام لما يحلّ بالمدنيين الفلسطينيين من مجازر. الإعلام الذي يتجاهل آلاف الضحايا وأغلبهم من الأطفال والنساء ليركز على قصص مفبركة من هنا وهناك هو إعلام تضليلي وأخشى أنّ العالم يتعرّض لغسل أدمغة نتيجة هذا الإعلام والدعاية".
ويلفت الرجل إلى "إن مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً تمارس رقابة على المواد التي تتحدث عن فلسطين حيث يتم تقييد قدرتها على الوصول وأحيانا يتم التشكيك بالمضمون وصولاً على الحذف وحتى تعليق الحساب مؤقتاً او توقيفه نهائياً. إنّها حرب أخرى تُشنّ على حقيقة ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين، بالتوازي ما الحرب العسكرية والمجازر من مستشفى المعمداني إلى مسجد النصيرات".
المصطلحات المستخدمة من قبل الإعلام الغربي
من جانب آخر، يستخدم الإعلام الغربي مصطلحات معيّنة لتغطيته الأحداث في غزّة. حيث لجأ إلى عبارة "قتل" للجنود والمدنيين الإسرائيليين، مقابل عبارة موت للمدنيين الفلسطينيين. واستخدم عبارة "اسرائيل تحت القصف" أو "تحت الغارات" أو "الحرب على اسرائيل"، بدل عبارة "الحرب الاسرائيليّة على غزّة"، أو "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني". كما وصّف الإعلام الغربي "عمليّة طوفان الأقصى" بالعمليّة المفاجئة الصادمة للجيش الاسرائيلي، وكأنّها جاءت كفعل ضدّ نظام مسالم، بدل ردّة فعل ضدّ جرائم الحرب وعمليّات الإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى أعوام وأعوام. ولا يكفّ الإعلام الغربي عن توصيف الفلسطينيين وحركة حماس وكل ّمن يدافع عنهم بالإرهابيين أو الداعم للإرهاب. كما يعتبر أيّ انتقاد ضدّ اسرائيل معاداة للسامية، أو خطاب عنف وكراهيّة. حيث تستخدم اسرائيل عبارة "الحرب ضدّ الإرهاب" لتبرير أعمالها الإجراميّة ضدّ أهالي غزّة. حتّى أنّها قصفت إحدى المستشفيات في قطاع غزّة، وهي مستشفى المعمداني، المليئة بالمصابين وجرحى الحرب، بحجّة وجود عناصر لحماس داخلها، فتعود وتنفي قصفها. لتتحوّل المستشفيات بذلك إلى مقابر بحسب تصريحات الصليب الأحمر الدولي.
كما أمر الكيان الإسرائيلي أكثر من مليون شخص بالنزوح من الشمال إلى الجنوب بعد أن قُطعت عنهم المياه والطعام والوقود والكهرباء، مجبرة حتّى المرضى في المستشفيات على الانتقال. وهو ما وصفته بعض المنظمات الانسانيّة بمثابة الإعدام، لتعود وتقصفهم عمداً أثناء نزوحهم. وكلّ ذلك والاعلام الغربي يبكي المدنيين الإسرائيليّين والجنود الأسرى، ويتناسى سفك دماء الفلسطينيين، وحملات الابادة الجماعيّة التي تحصل بحقّ 2.4 مليون شخص محتجز في أكبر سجن عالمي.
فهل حياة الفلسطيني تساوي أقلّ من حياة الأوكراني؟ أو الأميركي؟ أو البريطاني؟ أو الفرنسي؟ أو أي مواطن أجنبي حول العالم؟ ماذا لو كان هؤلاء الفلسطينيين أوكرانيين، أو أميركيين أو كنديين أو فرنسيين؟ أو ألمان؟ كيف كان سيتفاعل المجتمع الدولي أمام صورهم كمدنيين أبرياء وهم يغادرون منازلهم هرباً من القصف رافعين أياديهم مستسلمين خائفين وحاملين أطفالهم، فيما اسرائيل لم تكتف بتنكيلها بهم، بل لاحقتهم وقصفتهم وهم هاربين؟
وماذا لو وصّف بوتين الأوكرانيين المدنيين أو الجيش الأوكراني بالحيوانات البشريّة، ماذا كان سيكون ردّ المجتمع الدولي؟
الأسئلة الموجّهة التابعة لأجندات
وبالإضافة إلى ما تقدّم، تجلّى انحياز الإعلام الغربي بشكل واضح لصالح إسرائيل، مثال على ذلك الأسئلة التي وُجهت إلى السفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط، حيث طُلب منه إدانة قتل حماس لعسكريين إسرائيليين، والاعتراف بحقّ اسرائيل بالدفاع عن نفسها. ليقلب السفير الطاولة على محاوريه فاضحاً ازدواجيّة الاعلام الغربي. واعتبر أنّ مبدأ السؤال فاسد من الأصل، وانتقد قناة الـBBC البريطانيّة لعدم استضافته إلّا حين ذاقت إسرائيل من الكأس الذي يتذوّقه الفلسطينيون منذ بدء الاحتلال. ولفت إلى أنّ "كلّ ما يحصل في غزّة اليوم بدأ منذ أن سلبتنا بريطانيا حقوقنا دون استشارتنا والرجوع إلينا، ليثبت نهج المجتمع الغربي والدولي فشله بالكامل".
وذكّر بأنّ "مليوني مواطن فلسطيني أخذوا أسرى من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مدى عقود ولم يقم أيّ صحافي بسؤال أيّ مسؤول إسرائيلي إذا ما كان يدين أعمال الجيش الإسرائيلي الإجراميّة بحقّ هؤلاء الفلسطينيين، ولا عمّا فعله رئيس الوزراء الاسرائيلي بإعلانه عن قصف مناطق فلسطينيّة مدنية أو ما فعلوه الإسرائيليين في القدس المحتلة والضفة الغربية"، مشدّدا على أنّه "لا مجال للمساواة أو المقارنة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر. وعلى المجتمع الدولي أن يفرض على إسرائيل احترام القوانين الدولية. فإسرائيل تقوم بمسح عائلات بأسرها، فيما الفلسطينيين يقاتلون من أجل حياتهم".
وحمّل "العالم مسؤولية سكوته عن المجازر التي تحصل في أكبر معتقل مفتوح بالعالم (غزة) بحصانة مطلقة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا". مشدّدا على "التزام الفلسطينيين باتفاق أوسلو مقابل خرق إسرائيل على مدى 30 عاماً لبنود هذا الاتّفاق دون توقّف".
كما ذكر زملط في مقابلة أخرى مع "سكاي نيوز" أنّ هذا الهوس بإدانة الضحايا وتوجيه الاتهّام للمحاصرين ومن هم تحت الاحتلال طرح غير أخلاقي، لما فيه من منح الحقّ لإسرائيل حصراً في الدفاع عن نفسها وتصويرها على أنّها تحت الحصار".
كما تطرّق السفير مع محطة الـ"سي إن إن" الأميركية إلى مأساوية الوضع القائم المتمثّل في مقتل الآلاف على كلا الجانبين، مشيراً إلى أنّ "العالم والمجتمع الدولي يغضّان النظر ويصمّان الآذان عن انتهاكات الاحتلال بحقّ المدنيين الفلسطينيين لعقود، ويتحدث عند مقتل الإسرائيليين فقط".
ويبقى من أفظع الممارسات الصحفية، ما نشرته قناة بي بي سي البريطانيّة على حسابها في موقع إكس، وقالت فيه "هل تبني حماس أنفاقًا تحت المستشفيات والمدارس؟" وهو مجرّد سؤال، وليس تحقيقًا أو تقريرًا صحفيًا، ليعقب هذا السؤال جريمة مروّعة ارتكبها الاحتلال، إذ قصف مستشفى الأهلي المعمداني الذي راح ضحيته أكثر من 500 شخص.
وفي المحصّلة، عرّت أحداث غزّة وسائل الإعلام الغربيّة وكشفت نفاقها، وازدواجيّة معاييرها، وكيف يتمّ استخدامها كدمى وأداة تعمل لمصلحة الإسرائيليّين، فتزوّر الوقائع، وتخبّئ الحقائق عن الرأي العام، ليبقى مخدّراً ولا يحاسب حكوماته على تورّطها في سفك دماء الفلسطينيين.