الأحداث الأخيرة في غزة تعيد إلى الذاكرة تجارب أليمة خاضتها الشعوب. من مجاعة، وحروب وهروب إلى الملاجئ، وقتل وترهيب. وتربك المواطنين، فيقفون حائرين بين مدى حقّهم بالعيش بسعادة وفرح وممارسة نشاطاتهم اليوميّة بشكل طبيعي، والتعاطف والحداد على ما يحصل في فلسطين.

تزامن اليوم العالمي للصحّة النفسيّة (10 تشرين الاوّل 2023) مع اندلاع الحرب على غزّة. بعد انطلاق عمليّة طوفان الأقصى يوم السبت 7 تشرين الاوّل 2023 رداً على اعتداءات القوات الإسرائيلية والمستوطنين المتواصلة بحقّ الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدّساته، ولا سيما المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلّة.

وتستمرّ حصيلة ضحايا الحرب بين غزّة وإسرائيل بالارتفاع لليوم العاشر على التوالي، حيث أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية يوم 15 تشرين الأوّل عن وصول عدد القتلى إلى 2670، فيما ناهزت حصيلة القتلى الإسرائيليين 1400، إضافة لآلاف الجرحى من الجانبين معظمهم من المدنيين.

صور الجثث سيطرت على المشهد، حيث لم يستثنِ الموت النساء والرجال المدنيين وحتّى الأطفال. أشلاء الضحايا تنتشل من تحت الأنقاض، سماع دوي ّصفّارات إنذار في كلّ مكان. فيما هزّت أصوات القذائف والصواريخ والقنابل الإسرائيليّة التي طالت الفلسطينيين المجتمع العربي والدولي. ونتج عنها مقتل ما لا يقلّ عن 12 صحفيا وإصابة 8 آخرين بحسب بيان لجنة حماية الصحفيين. كلّها أحداث زرعت الخوف والارتباك ومشاعر الغضب والضياع في نفوس المتابعين. ولا شكّ بأنّها تركت أثراً نفسيا كبيراً على المتلقّين. فليس من الضروري أن نكون من سكّان غزّة أو جنوب لبنان حتى نخاف أو نصاب بالصدمة. فنسبة الخوف متفاوتة عند الأشخاص وتزيد عند الذين عاشوا حروباً من قبل، أو عانوا من تهجير، أو تدّمرت بيوتهم أو مات أحد أقاربهم. وهي حالات عانى الشعب اللبناني منها. كما أنّها تزيد عند من عاشوا في الغربة بعيداً عن أهلهم ويسمعون الأخبار السيئة عبر وسائل الإعلام.

فالإجرام الاسرائيلي عانى منه جميع العرب، وعلى الرّغم من أنّ بعض الدول ذهبت إلى التطبيع، إلّا إنّ الشعوب لا تزال رافضة لهذا الواقع ولم تنسَ معاناتها ولا دماء شهدائها. وجاءت الأحداث في غزّة لتذكّر هذه الشعوب بما عانوه سابقاً، حيث لم تكتفِ إسرائيل بقتلها لآلاف الضحايا المدنيين الفلسطنيين، بل شدّدت خناق الحصار على غزّة وقطعت المياه والكهرباء والطعام عن أهالي المنطقة، الذين أسمتهم بـ"الحيوانات البشريّة" بحسب تصريح وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي استخدم هذا التوصيف ليبرّر إجرامه بحقّ المواطنين العزّل، مسقطاً عنهم كلّ ما نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان. وهو ما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ"غير المقبول" وشبّهه بالحصار النازي للينينغراد.

كلّ هذه الأحداث، والتوصيفات، تعيد إلى الذاكرة تجارب أليمة خاضتها الشعوب. من مجاعة، وهرب إلى الملاجئ، وقتل وترهيب. وتربك المواطنين، فيقفون حائرين بين مدى حقّهم بالعيش بسعادة وفرح وممارسة نشاطاتهم اليوميّة بشكل طبيعي، والتعاطف والحداد على ما يحصل في فلسطين. وهذه الحيرة تزيدها ازدواجيّة المعايير المعتمدة من قبل المنظّمات الدوليّة التي تميّز بين فلسطيني وإسرائيلي، فتدافع عن حقوق المدنيين الإسرائيليّن، وتغضّ النظر عن المجازر التي ارتكبت على مدى عقود من الزمن بحقّ الشعب الفلسطيني.

الدول الداعمة لفلسطين vs الدول الداعمة لاسرائيل

يمكن التوقّف عند بعض الدول الداعمة لاسرائيل كفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، اليونان، قبرص، إيطاليا، السويد، البرازيل وغيرها من الدول الأجنبيّة.

من جانبها دعمت بعض الدول القضيّة الفلسطينيّة، مؤكّدة وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني ومطالبة بتطبيق حلّ الدولتين ومنها: إيران، وروسيا، والصين، كوبا، ماليزيا، قطر، الكويت، السعوديّة، البحرين، عمان، اليمن، ليبيا، تونس، الجزائر، فنزويلا، الأردن، العراق، سوريا، ومصر، وغيرها من الدول العربيّة. إلّا أنّ حدّة البيانات تفاوتت بين دولة وأخرى. وهي ليست كافية لشفاء غليل المواطنين العرب المتابعين للأحداث في غزّة والمتضامنين مع الشعب الفلسطيني.

فيما فضّلت دول اخرى الوقوف على الحياد، أو على مسافة واحدة من طرفي النزاع مكتفية بدعوات ضبط النفس، ومنها اليابان وسويسرا.

وأمام هذه المشاهد السوداء المليئة بالظلم، واللامساواة، والحزن وغياب العدالة، تعتري المواطنين العرب والغربيين مشاعر متناقضة، مليئة بالغضب والخوف إذ شهد يوم الجمعة 13-10-2023 خروج جموع المتظاهرين فى مختلف عواصم ومدن عربية وأجنبية في مظاهرات حاشدة داعمة للقضية الفلسطينية ولعملية طوفان الأقصى و للتنديد بالعدوان والقصف الإسرائيلي المتواصل على مدن وقرى قطاع غزة والضفة الغربيةن مردّدين وحاملين شعارات ولافتات مناهضة للاحتلال. وذلك على الرّغم من كل ّالتحذيرات التي وجهتها السلطات الغربيّة وحظرها جميع المظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين، بذريعة أنّها من المحتمل أن تؤدّي إلى "الإخلال بالنظام العام"، تحت طائلة السجن والغرامات الماليّة.

مشاهير يدعمون فلسطين vs مشاهير يدعمون اسرئيل

إلى ذلك انقسمت الآراء بين متضامن مع فلسطين ضدّ الحرب الإسرائيلية، ومؤيّد لها. فعلى صعيد المشاهير دعم عدد كبير من المشاهير الأجانب اسرائيل، ومنهم "مادونا" و"غال غادوت"، و"نينا دوبريف"، و"صوفيا ريتشي"، و"آشلي تيسدال"، و"كايلي جينر"، و"كيم كارداشيان"، و"جيستين بيبر"... إلاّ أنّه ولسخرية القدر استخدم العديد من هؤلاء صوراً لترهيب حصل بحقّ الأطفال الفلسطينيين، معتقدين أنّهم إسرائيلييون، ليعودوا ويحذفوا المنشور بعدما اجتاحت التعليقات الساخرة والمصحّحة لمعلوماتهم خانة التعليقات على حساباتهم. فيما تراجع العديد من هؤلاء عن دعمهم بعد أن لاقوا هجوماً شرساً من قبل متابعيهم ورفضاً قاطعاً لهذا الدعم. كما دعا بعض المعلّقين هؤلاء المشاهير لدعم فلسطين وانتقدوا قلّة اطّلاعهم على خلفياّت الصراع، ووبخوهم لـ"دعمهم كياناً محتلّاً".

فيما تعليقات جيل الشباب لصالح فلسطين ليست مفاجئة، فقد وجد استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في آذار 2023 أنّ مشاعر الشباب الأميركيين المنتمين إلى الحزب الديمقراطي من الأجيال الحديثة، بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ قد تغيّرت خلال العقد الماضي، وتحوّلت من دعم إسرائيل إلى التعبير الآن عن المزيد من التعاطف تجاه الفلسطينيين.

في المقابل أيّد قسم كبير من المشاهير الأجانب والعرب القضيّة الفلسطينيّة، ومنهم شريهان، نانسي عجرم، هيفاء وهبي، نجوى كرم، البطل الروسي في لعبة الجودو خاسان خالمورزاييف، لاعب نادي الرائد السعودي الألماني روبرت باور، الحارس المصري عصام الحضري ، عارضة الأزياء من أصول فلسطينيّة جيجي حديد، ممثلة الأفلام الاباحيّة السابقة ميا خليفة، "بيغ رامي"، رياض محرز نجم منتخب الجزائر، علي معلول نجم منتخب تونس، ميرهان حسين، داليدا شوقي، سيرين عبد النور، راغب علامة، عاصي الحلاني، وليد توفيق، مايا دياب، أحمد السعدني، ايمان العاصي، حلا شيحا، كيندا علّوش، درّة، احمد فهمي، اكرم حسني، ميرهان حسين، غادة عبد الرازق، محمد إمام، ياسمين عزّ، ملكة جمال لبنان ياسمين زيتون، أحلام، أصالة.

المواطنون عالقون بين شاقوفين

ولا يختلف حال المشاهير الأجانب والعرب عن حال المواطنين، الذين وبمعظمهم يعيشون في حالة ضياع بين التضامن من عدمه. فهؤلاء عالقون بين "شاقوفين"، الأوّل التضامن الإنساني مع الشعب الفلسطيني ضدّ المجازر الإسرائيليّة التي ترتكب بحقّه، والثاني الخوف من فرص العمل المهدّدة في حال أعلنوا عن هذا التضامن، أو من توقيف حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. لأنّ أيّ هجوم على اسرائيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي يمكن تصنيفه من ضمن خطابات الكراهيّة أو معاداة السامية بحسب سياسات هذه المنصّات، ويؤدّي بالتالي إلى حذف المنشور تلقائياً، أو حجبه، أو توقيف الحساب.

إلاّ أنّ حقيقة واحدة تبقى، وهي حجم التأثير النفسي الضخم لكل ّما يحصل، وهو يطال العرب عموماً، واللبنانيين على وجه الخصوص. فموقع لبنان عند الحدود الفلسطينية المحتلّة يجعل منه طرفاً في أيّ نزاع إسرائيلي – فلسطيني، وقد يُدخل اللبنانيين في أي ّلحظة بحرب مع العدوّ. فللصراع اللبناني الإسرائيلي تاريخ من الحروب والاجتياحات، بدأت مع احتلال فلسطين وأجزاء من لبنان ولا تزال مستمرّة حتى هذا اليوم. ولعلّ أصعب هذه الحروب على اللبنانيين، كانت حرب تمّوز في الـ2006، (العدوان الإسرائيلي على لبنان) والتي نتج عنها نزوح أكثر من مليون ونصف لبناني، وإجلاء أكثر من 2000 من الرعايا إلى قبرص وسوريا. وأسفرت عن 1،200 قتيل لبناني و4,410 جريح منهم من أصيب بإعاقات دائمة.

التأثير النفسي للحرب على الأفراد

وفي كل ّمرّة يعود فيها الحديث عن احتمال نشوب حرب جديدة بين لبنان وإسرائيل، تعتري اللبنانيين مشاعر مليئة بالخوف من تكرار نفس التجربة المريرة.

وهو ما تؤكّده راويا عيتاني، وهي مدرّبة متخصّصة بعلاقتنا مع صورتنا الذاتية، وفي حديثها لموقع "الصفا نيوز" تشير عيتاني إلى أنّ "لذلك أثر كبير خصوصاً على الذين سبق وعاشوا صدمة نفسيّة من جرّاء أي ّحدث أليم، كحروب سابقة، زلزال، انفجار... فيما العوارض تأتي على شكل كوابيس وقلق وتجنّب بعض الأماكن التي ترتبط مع الحدث الأليم الذي عاشوه، والتي قد تعود إلى هؤلاء الأشخاص فور سماعهم باحتمال نشوب حرب جديدة. فضلاً عن الخوف والتردّد والتخبّط النفسي، والأرق، وشعور الشخص بالذنب لكونه لا يزال على قيد الحياة، فيما يُقتل الأطفال والنساء والمدنيون. إلى جانب نوبات الصرع، واستذكار الأحداث الأليمة التي مرّت عليهم بتفاصيلها، وقد ينتج عنها ردات فعل عنيفة، أو عادات إدمان".

وعن الأضرار النفسية التي تصيب الأطفال بفعل الحرب، تقول عيتاني "تشمل أعراض الاضطراب النفسي لديهم: التبوّل اللاإرادي والغضب وقضم الأظافر والإحساس بالعزلة والعدوانية والنسيان وعدم التركيز وغيرها، ويمكن أن تتطوّر الحالة إلى القلق وصولًا إلى الاكتئاب".

وأشارت إلى أنّ "طريقة تلقّي الصدمة تختلف بين المجتمعات والأفراد، لا سيّما إذا كانت البنية النفسية للأشخاص ضعيفة منذ الطفولة". مشددة على أهميّة الخضوع لجلسات علاج نفسي، وضرورة لجوء الأهل إلى متخصّصين نفسيين لمساعدتهم على التعامل مع أطفالهم. كما يفضّل تجنّب الحديث عن أخبار الحروب أمام الأطفال، والتوقّف عن متابعة نشرات الاخبار، والسيطرة على محتويات مواقع التواصل الاجتماعي التي يتلقاّها الأطفال. وهذه الخطوات لا تنطبق على الأطفال فقط بل على الكبار أيضاً الذين يجب أن يتجنّبوا الصور العنيفة، والابتعاد قدر المستطاع عن الأخبار السلبيّة".

كيف نتخطّى الأثر السلبي للحروب؟

والحل ّ بحسب عيتاني يبدأ بأن "يعي الفرد بأنّ ما يمرّ به يعرف بعوارض ما بعد الصدمة، وهو أمر طبيعي قد يحصل مع أيّ شخص تعرّض لصدمة قويّة، فالخطوة الأولى للعلاج هي معرفة المشكلة والاعتراف بها، ومن ثمّ طلب المساعدة من خبراء، لعدم الوقوع بفخّ اليأس أو الاستسلام. ويجب الإضاءة على أنّ هذه المشاعر والعوارض يمكن معالجتها وتخطّيها إلاّ انّها تحتاج إلى وقت. وعلى الشخص الذي يواجه هذه العوارض أن يعاود التواصل مع مجتمعه والتقرّب من الأشخاص الذين يحبّهم لاستعادة روتينه اليومي، والشعور بالأمان من جديد، والحب والتقبّل، وأن ينشغل بنشاطاته المعهودة ويشارك النّاس بأموره اليوميّة، ويعود إلى ممارسة عاداته وتقاليده، كي يعي أنّ ما مضى قد مضى وهو لا يملك سوى الحاضر ليستثمره ويطوّر من نفسه ويحسّن حياته نحو مستقبل أفضل... كما أنّ للنشاطات الجسديّة أهميّة كبيرة في طريق العلاج. وعلى الفرد أن يؤمن بامتلاكه لقدرات يستطيع العمل عليها لإعادة بناء أو تعويض ما فقده. وتذكيره بالمشاكل التي تمكّن من تخطّيها في السابق. والهدف هو تقوية الصمود النفسي للفرد".

وما نطلبه من الشخص الذي تعرّض للصدمة، نطلبه من محيطه وأهله أيضاً، بحسب عيتاني، والعلاج يبدأ بنشاطات يوميّة صغيرة، يمارسها الشخص بمفرده ومع محيطه، ومن ثمّ نزيد من كميّة هذه الأنشطة حتّى يشعر الفرد بتحسّن ويلمس محيطه أيضا التغيير الذي طرأ. وعلى الفرد أن يهنّئ نفسه مع كل ّخطوة يتقدّم فيها إلى الأمام. ومن الضروري أن يعي أنّه صاحب القرار ويملك القوّة. حيث أنّ معظم من اختبروا لحروب يفقدون الثقة بنفسهم ويعتريهم شعور بالعجز، وبأنّهم لا يملكون القرار لحياتهم. وبعد تعزيز ثقة الفرد بنفسه، يجب تعزيز الـ تحدّث مع النفس لتشجيع الفرد على التواصل مع نفسه وتذكير ذاته بنقاط قوّته وتوجيه دماغه إلى النقاط الإيجابيّة للتغلّب على التفكير السلبي".

فهل نكون جميعاً بحاجة لعلاج نفسي بعد الحرب على غزة؟ هل يمكن التوقّف عن متابعة أخبار ما يحصل جنوباً وجنوب الجنوب؟ هل يمكن أن نغض النظر نحن أيضاً عمّا يجري من قتل وتهجير وتدمير يطال آلاف المدنيين من أطفال ونساْ وكبار في السن، من اجل رفاهيتنا النفسية؟ تلك هي المسألة وهنا يكمن الجواب والعلاج.