تمّ وضع الخطة الوطنية للسرطان التي أعلن عنها في تموز وإطلاق حملة بشأنها في تشرين الأول من العام الجاري

قبل انطلاق الشهر العالمي للتوعية حول سرطان الثدي/ شهر تشرين الأول، أُعلن عن إطلاق مشروع المركز الأول لمرضى السرطان في لبنان بهدف دعم المرضى البالغين وأهلهم نفسياً واجتماعياً، وذلك في دير الآباء العازاريين في الأشرفية.

وهي خطوة مليئة بالأمل حرص رئيس مركز "بربارة نصّار" هاني نصّار على المضيّ بها، على الرّغم من كلّ ما يعترضها من تحدّيات وصعوبات، وسط الظروف الإقتصاديّة الصعبة التي يمرّ بها لبنان، وانهيار العملة ونسب التضخّم المرتفعة، والشحّ في أدوية الأمراض المزمنة وخصوصاً تلك التي يحتاجها مرضى السرطان في لبنان.

ووراء هذه الخطوة الشجاعة، قصّة نضال حرص نصّار على نقلها إلى العالم كلّه.

قصّة مركز بربارة نصّار

فزوجة هاني نصّار، بربارة نصّار، والتي سمّي المركز على اسمها، كانت مريضة سرطان. وكان الزوجان من طبقة متواضعة، حيث كان يعمل هاني كأستاذ مدرسة. ولديهما ولدان، شاب وفتاة، ليوني وليونار، كان عمرهما 9 و10 سنوات، عندما أدركوا أنّ بربارة أمهما وفي 19 كانون الأوّل 2009، تعاني من سرطان الثدي، في مرحلة متقدّمة، طالت عظام رقبتها وأدّت إلى تفتتها، وكسر في الخرزة الثانية في رقبتها وفي قفصها الصدري، وهريان في القفص الصدري والحوض.

وكان أمام بربارة عاماً واحداً فقط قبل أن تسلّم الروح. وأمام هذه الصدمة أخذت العائلة قرارا بعيش كلّ يوم بيومه. وتمّ تثبيت جمجمة بربارة بالخرزة الثالثة والرابعة، وخضعت إلى حوالي الـ120 جلسة أشعّة، ولحّمت عظامها. ونقلت العائلة مركزها إلى جانب المستشفى، حيث كان هناك خوف من أن تصاب بربارة بشلل رباعي. وأجرت عمليّة لصدرها لاستئصال الورم.

رحلة العلم اللبناني

وخلال العلاج الكيميائي، أخذت العائلة قراراً بإقامة مشروع لتحدّي الخوف من المرض. فأعدّت رحلة "العلم اللبناني". حيث زارت العائلة جميع المناطق اللبنانيّة حاملة علماً ضخماً للبنان مساحته 10452 ديسيمتر مربع. وجالت على 1655 دائرة اختياريّة في لبنان، عبر كارافان. وقضت العائلة 15 ليلة في الكرافان، و65 ليلة عند أشخاص قرّروا استضافة الأسرة لديهم. وللرحلة 3 أهداف: الأوّل وطني، وترجم بجمع تواقيع مخاتير جميع القرى في لبنان على علم واحد ليقدّم إلى رئيس الجمهوريّة كونه رمز وحدة الشعب اللبناني، وكرّم الأخير بربارة. والثاني، سياحي، للتسويق للمناطق اللبنانيّة، حيث تمّ التقاط 13 ألف صورة لهذه القرى ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. أمّا الهدف الثالث، فكان شهادة إيمان بالله، للتأكيد على أنّ قدرة الحياة أقوى من الخوف والمرض. وشاركت بربارة بأكثر من 800 ساعة قيادة، بعد أن كانت ممنوعة من ركوب السيارة حتّى، خوفاً من الشلل. وكان لهذه الرحلة أصداءً ايجابيّة كبيرة. حيث ألهمت بربارة العديد من مرضى السرطان وزوّدتهم بالقوة لتحدّي المرض.

إرادة الحياة أكبر من المرض

وبعد انتهاء الرحلة أجرت بربارة عمليّتها الثانية لسرطان الثدي. وفي 16 آب 2012، كان عيد زواج بربارة وهاني، حين أعلمهما الأطباء أنّ وقت الوداع قد حان بعد انتشار المرض في السحايا. أمّا في 16 آب 2013 فكانت بربارة في القرنة السوداء ترسل تحيّة إلى الأطباء تؤكّد لهم أنّها لا تزال على قيد الحياة وأنّ الأعمار بيد الله.

في المقابل كان هناك العديد من المرضى الذين كانوا يوقفون علاجهم، لفقدهم الأمل ويتوفّون. ولا شكّ بأنّ الخوف سيطر في بعض الأحيان على كلّ من هاني وبربارة إلاّ أنّ إصرارهما على الحياة كان أكبر. وتقبّل الزوجان فكرة الموت ووضعا خطّة بديلة في حال توفّي أحدهما قبل الآخر ماذا سيفعل الطرف الثاني.

تأسيس الجمعيّة

وبعد أن اكتشف الزوجان أنّ معظم الجمعيات التي تساعد مرضى السرطان تعنى بالأطفال فقط، على الرغم من وجود 600 طفل مريض بالسرطان مقابل 12 ألف حالة جديدة في السنة للكبار. قررت بربارة تأسيس جمعيّة لمرضى السرطان تعنى بالكبار. وأطلقتها في اليوم العالمي لمرضى السرطان في 4 شباط 2014 ، وقام الوزير السابق مروان شربل بالتوقيع على العلم والخبر قبل مغادرتها الحياة بناءً على طلبها، بعد أن كانت تأخذ ما يقارب الـ240 ميليغرام من المورفين يومياً على مدى سنة و9 أشهر.

وفي رسالتها الأخيرة قالت بربارة في فيديو مصوّر من قلب المستشفى، عرض يوم دفنها قالت فيه "لا تخافوا ممّا يقتل الجسد بل خافوا ممّا يقتل الروح". لتسلّم الروح في 27 شباط 2014. ودّعها هاني وقرّر أن يكمل رسالتها. وشكّل أوّل فريق عمل من تلاميذه وأصدقائه، وأطلقت الجمعيّة رسميّا في شباط الـ2015. وأطلق هاني أغنية "هوّارة" لتعطي أمل لمرضى السرطان.

عمل المؤسسة

وبدأت المؤسسة بأخذ الأدوية ممّن أتّموا علاجهم أو توفوا وإعطائها للأكثر حاجة. إلى جانب إقامة بعض النشاطات للمرضى. وفي الـ2019 نظّمت الجمعيّة أوّل cancer awareness village في الـForum de Beirut، جمعت فيها 9 مستشفيات و11 جامعة و17 جمعيّة. وهو أوّل معرض توعوي لأمراض السرطان في لبنان. وأصدرت وزارة التربية آنذاك تعميمًا للمدارس بزيارة هذا المعرض. وضمّ المعرض 55 كشك، يتناول كلّ واحد منها نوع من أنواع أمراض السرطان يتمّ التعريف عنه عبر ألعاب والأسئلة بطريقة مبتكرة. كما تمّ إعطاء 18 محاضرة على مدى يومين. والهدف كان بتغيير نظرة المجتمع وأسلوب تعامله مع السرطان تحت شعار "بدّك تنتصر على المرض بدّك تسمّيه باسمو". وهي الجملة التي كانت تردّدها بربارة.

أكاديميّة بربارة نصّار

وبفترة كورونا تحوّل عمل الجمعيّة أونلاين، من خلال support groups جمعت المرضى ضمن جلسات بحسب نوع السرطان لديهم. وأطلقت أكاديميّة بربارة نصّار لمرضى السرطان التي تضمّ أساتذة وطلاباً ومتخصّصين. وفي المقابل تمّ خلق advisory board للجمعيّة من خلال 53 طبيب معالج للسرطان، على امتداد لبنان. وهؤلاء الأطبّاء يجتمعون مع المرضى ويثقفونهم بحسب اختصاص كلّ طبيب. وكان حلم الجمعيّة تأسيس مركز يجمع هؤلاء المرضى، ويهتمّ بالمرضى كبار السنّ.

وحتى أوّل عام 2022، تمكّنت المؤسسة من مساعدة 3500 مريض سرطان. من خلال تقديم التوجيه، والدعم النفسي والأدوية. وتمكّنت المؤسسة من تأمين حوالي الـ450 ألف دولار مساعدات للمرضى لدفع فاتورة العلاج في المستشفيات من خلال جمع التبرّعات. وما يزيد على الـ4 ملايين دولار قيمة الأدوية التي أنقذت من التلف وأمّنت إلى المرضى. كما أصبحت الجمعيّة تتلقّى مساعدات أدوية من قبل الصيدليات والمغتربين.

كما توفّر المؤسسة كلّ حاجات المرضى كالشعر وحشوات الثدي وأدوات طبيّة وغيرها من الحاجات المشتركة التي قد يحتاجها المرضى.

نضال في الطرقات

وخلال أزمة انقطاع الدواء، يقول هاني نصّار في حديث خاص لموقع "الصفا نيوز"، "حاولنا التواصل أكثر من مرّة مع وزارة الصحّة على عهد الوزير السابق حمد حسن إلاّ أنّ الإجتماعات كانت تؤجّل في كلّ مرّة. وبعد أن تواصلنا مع مصرف لبنان، جاءنا الردّ بأنّ المشكلة لدى وزارة الصحّة. وأمام تقاذف المسؤوليّات، كانت ترتكب مجزرة حقيقيّة بمرضى السرطان. وبعد 4 أشهر من انقطاع أدوية السرطان بشكل كلّي قمنا باعتصامات امام مبنى الإسكوا، وقدّمنا كتاب احتجاج لممثلة الأمم المتحدة في لبنان، حول تقاعس وسرقة الدولة وقتلها لمرضى السرطان. لنتفاجأ في اليوم الثاني بتوقيع مصرف لبنان على استيراد أدوية السرطان. وبدأت الأمور بالحلحلة بوتيرة بطيئة. وبعد تسلّم الوزير فراس الأبيض وزارة الصحّة، عاد التواصل، ودعانا إلى الوزارة. وبدأنا بالتنسيق مباشرة مع الوزراة حول أعداد وحاجات مرضى السرطان. ولم نتوقّف عن الضغط على السلطة لتأمين أدويتنا. وقمنا بفضح ملفّ أدوية السرطان في مبنى الكرنتينا والفساد الموجود هناك. حتى تمّ العمل على هذا الملفّ وضبط السرقات. ولم يعد مرضى السرطان مجبرين على النزول إلى الكرنتينا للحصول على أدويتهم بل أصبحوا يستلمونها من المستشفيات مباشرة".

"وعلى الرغم من تأمين الأدوية لـ80 %من مرضى السرطان في لبنان، إلاّ أنّه لا يزال حوالي الـ20% من هؤلاء بحاجة إلى الدواء. فيما المشكلة الرئيسيّة في مسألة التمويل، حيث انّ الميزانيّة المخصّصة من الحكومة لوزارة الصحّة لا تكفي لتأمين الكلفة الكاملة للأدوية. إلاّ أنّه إذا قرّر المعنيّون توقيف السرقات فهم سيتمكّنون من تأمين علاجنا"، بحسب نصّار.

ويضيف "ويشكّل مرضى السرطان القسم الأكبر من المتطوّعين وأهلهم في المركز، وفي الأكاديميّة. وتواصل معنا الاتحاد العالمي للسرطان ومنحنا عضويّة في الاتحاد وشاركنا في مؤتمر جنيف على مدى 3 أيّام. كما سأشارك في اجتماع القمّة للاتحاد، للحديث عن كلّ ما تقوم به جمعيّة بربارة نصّار من خلال تحويلها مرضى السرطان من مجرّد أرقام إلى قضيّة حقيقيّة تهمّ الرأي العام".

مركز بربارة نصّار


وعن أهداف المركز يقول "ايجاد مقرّ لعقد اجتماعات العمل، فضلا عن تأمين التبرّعات بطرق فعّالة، حيث كان العديد من المؤسسات الحكوميّة والخاصّة في لبنان تلمّ تبرّعات على ظهر مرضى السرطان في لبنان مستخدمة صورنا".

وعن الخدمات التي يقدّمها المركز يلفت نصّار إلى أنّه "يتألف من أربعة طوابق تقدم الخدمات التالية:

- المركز الطبّي حيث يتمّ توجيه المرضى في مسيرة علاجهم وفيه معاينات طبّية شبه مجانية ومركز توزيع أدوية مجانية كما مركز تصوير للكشف المبكر عن سرطان الثدي وسائر الأمراض السرطانية.

- مركز الدعم النفسي من خلال العلاج بالفنون: الموسيقى، الدراما، تمارين التنفس والتمارين البدنية.

- مركز إعادة تأهيل المرضى نفسياً وجسدياً وتأمين استمرارية إنتاجيتهم من خلال تدريبهم على حرف معينة وتسويق منتجاتهم.

- مركز للتوعية ومتحف دائم للسرطان بهدف نشر التوعية وتغيير ثقافة المجتمع اللبناني لمكافحة السرطان عبر المعرفة ويستقبل المركز مؤتمرات طبية.

-العمل على تشكيل فريق عمل يتابع شؤون المرضى وينسّق مع وزارة الصحة العامة وسائر الجهات المعنية".

لبنان سيحتلّ المراتب الأولى في سرطانات معيّنة

وفي وقت سابق، كان قد أعلن وزير الصحّة فراس الأبيض في حفل افتتاح مركز بربارة نصّار إلى أنّه "يصح وصف الأرقام المرتبطة بمرض السرطان في لبنان بالمخيفة، إذ يعتبر سبعون في المئة من الشعب اللبناني من المدخّنين بطريقة أو بأخرى. كما أنّ معدل عمر المرأة المصابة بالسرطان في لبنان أقلّ بعشر سنوات من المرأة المصابة بهذا المرض في أوروبا. وقريباً سيحتلّ لبنان المرتبة الأولى في سرطانات معينة من بينها سرطان المثانة".

وتابع "انطلاقا من هذا الواقع تمّ وضع الخطة الوطنية للسرطان التي أعلن عنها في تموز وإطلاق حملة في شأنها في تشرين الأول من العام الجاري، بحيث لا يقتصر الإهتمام بالسرطان في العلاج فقط بل يتمّ إيلاء أهمية خاصة للوقاية الإستباقية كما لمرحلة ما بعد العلاج".

في المحصّلة تبقى هذه الخطوات الفرديّة، التي يقوم بها أمثال بربارة وهاني نصّار، بصيص الأمل الأخير المتبقّي في بلد فقد مرضاه الأمل من أيّ عدالة على الأرض وتركوا أمرهم لعدالة السماء.