تتمّ عملية حرق الجثة عبر أفران خاصّة يوضع فيها الميت ويُحرق لمدّة تتراوح بين ساعتين إلى 3 ساعات، في حرارة تبلغ ألفي درجة مئوية

انتشرت ثقافة حرق جثث الموتى بكثرة بعد جائحة كورونا، في الدول الغربيّة، حيث لم تعد هذه الطقوس محصورة بديانات دول شرق آسيا، إنّما تعدّتها لتشمل الدول الغربيّة ككندا وأميركا وبريطانيا وحتى سويسرا. وبحسب الإحصاءات فإنّ 85% من السويسريين يختارون الحرق لموتاهم، فيما بلغت نسبة حرق الموتى 77% في الدانمارك، و75% بألمانيا و73% في بريطانيا. أمّا في أميركا الشمالية، فكشف تقرير صادر في 2019 عن الرابطة الوطنية لمديري الجنازات (NFDA) عن تزايد ارتفاع شعبية حرق الجثث التي تجاوزت معدّلاتها معدل الدفن للسنة الرابعة على التوالي.

ارتفاع معدّلات حرق الجثث في الدول الغربيّة

وزاد عدد محارق الجثث المرخّصة في الولايات المتّحدة بنسبة 8.9% على مدار عامي 2017 و2018، وتشغل محارق الجثث ما يقرب من ثلث دور الجنازات.

ووفقاً للتقرير الذي حمل عنوان "حرق الجثث والدفن" فإنّه بحلول عام 2040 من المتوقّع أن يكون معدّل حرق الجثث في الولايات المتحدة 78.7% بينما يُتوقع أن يكون معدل الدفن 15.7% فقط. وأشار التقرير إلى أنّ ذلك دليل على أنّ حرق الجثث ليس اتجاهاً يتلاشى، وإنّما ظاهرة تجد قبولاً، بل وتفضيلاً لدى النّاس.

وإلى جانب حرق الجثث، برزت ظاهرة تذويب الجثّة، المعروفة بتقنية "التحلّل القاعدي"، والتي بدأت تطبّق في بريطانيا منذ العام 2017، فيما سبقتها أجزاء من الولايات المتّحدة وكندا وأستراليا في العام 2016. حيث أعلنت شركة "أكوا غرين" الكندية، إنّها شيّدت في العام 2016 أكثر من 200 منشأة لإذابة جثث الموتى.

أمّا عن الأسباب التي تدفع الناس إلى استبدال تقليد دفن الموتى بحرقهم، فهي في معظمها عوامل اقتصادية وديموغرافية واجتماعية. وأهمّها قلّة التكلفة الاقتصادية للحرق، التي تبلغ ثلث تكلفة الدفن بالطريقة التقليدية. حيث تتطلب هذه الأخيرة تجهيزات للنّعش أو التابوت الخشبي وتكاليف غسل الميّت، ومراسم للدفن فضلاً عن نفقات إضافيّة كأكاليل الورد، وتكاليف إضافيّة.

أسباب اللجوء إلى حرق الجثث

تبلغ تكلفة استئجار قبر دائم في بعض المدن الفرنسية أكثر من 7 آلاف يورو، بينما تصل إلى 15 ألفاً و528 يورو في العاصمة الفرنسية باريس، بحسب تقرير لصحيفة لوموند نشرته في تشرين الأول 2018.

وفي هولندا تتراوح تكلفة الدفن بين ألف و4 آلاف يورو في السنة، بحسب المكان وما إذا كان قبراً خاصاً أو في مقبرة عامة.

وبالإضافة إلى الكلفة الماديّة، يعتبر خيار الحرق صديق للبيئة من حيث مساحات الأراضي التي يوفّرها لبناء مدافن. وهذا ما بات واضحاً في بعض الدول الأوروبية كألمانيا، حيث انحسرت مساحة المقابر التقليدية بما يقارب الثلث خلال أعوام قليلة بعد سريان الحرق. إلّا أنّ حرق الجثث يتطلّب الكثير من الوقود، وينتج عنه ملايين الأطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لكن في الواقع، تمّ حساب كميات هذه الانبعاثات وتبيّن أنّ متوسط حرق الجثث في الولايات المتحدة مثلاً، يستهلك القدر ذاته من الطاقة تقريباً وله الانبعاثات ذاتها مثل خزّانين من الغاز في سيارة. بحسب تقرير أعدته "ناشيونال جيوغرافيك".

آليّة الحرق وماذا عن الأرباح؟

تتمّ عملية حرق الجثة عبر أفران خاصّة يوضع فيها الميت ويُحرق لمدّة تتراوح بين ساعتين إلى 3 ساعات، في حرارة تبلغ ألفي درجة مئوية. بعد ذلك يُسحق ما بقي من العظام حتّى يصبح رماداً ويوضع في جرّة ويسلّم لأقرباء المتوفّى. فيما يحتفظ بعض هؤلاء ببقايا الرفاة داخل قناني زجاجيّة أو فخّارة (35%)، أمّا البعض الآخر فينثر رفاة الميّت في الطبيعة أو البحر (16%)، فيما قسم أخير يدفن هذه الرفاة في التراب. بحسب تقرير حرق الجثث الأميركي.

وإلى ذلك تجد بعض شركات حرق الموتى، في هذه العمليّة فرص لتحقيق أرباح ماديّة، عبر استخدام الرفاة بهدف استعمال رمادها لإنشاء شعاب مرجانية أو ضغطها وتحويلها إلى ألماس. حيث أنّ 45% فقط من أهل الفقيد يطالبون برفاته. وفي دول مثل السويد والدانمارك تحاول بعض الشركات الاستفادة من الحرارة الناتجة عن عملية الحرق في تدفئة المباني خاصة، بعد أزمة الطاقة التي عصفت بالقارّة العجوز إثر انقطاع الغاز الروسي عنها على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا.

ويعتبر حرق الجثث تاريخياً، واحد من المشاهد المرتبطة بالأساس بثقافة الديانة الهندوسية - أكبر ديانات الهند – ويعلّل الهنود حرقهم للجثث بأنّ بذلك ترتفع روح الميّت إلى السماء، لأنّ حرارة النار التى تحرق الجثث، تساعد على تطهير النفس من الذنوب، وحسب اعتقادهم فإنّ الحرق يعيد الروح إلى أصلها، ويسمّى ذلك فى عقيدتهم "عقيدة الفناء"، أو "السوتى"، أو "قرينة الذات". وأسلوب إحراق الجثث كان يمارس في جميع العصور؛ لكن لم يستخدمه الصينيون القدماء أو المصريون، بل مارسه الإغريق والرومان القدامى. فيما هذه الظاهرة يقابلها رفض من جميع الديانات السماويّة (الديانات الإبراهيميّة).

الديانات الإبراهيميّة تعارض حرق الموتى

وفي هذا الإطار يقول الشيخ إبراهيم الحصري في حديث خاص لموقع "الصفا نيوز" إنّه "لا بدّ من معرفة أنّ تعاليم الإسلام وشرائعه جاءت لإكرام النّاس، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: (ولقد كرّمنا بني آدم) ولمّا كان النبي صلّى الله عليه وسلم هو الذي يبلّغنا شرع ربنا، فقد علّمنا ما شرعه الله لنا في الأموات وما يجوز لنا اتجاههم وما لا يجوز. لذلك جاء هدي الإسلام مخالفاً لهَدْيِ سائر الأمم، مشتملا على الاحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه، فقد شرّع الله لنا أنّه إذا مات المسلم فإننا نُغَسِّلُهُ ونُنَظِّفُه ثم بعد ذلك نُكَفِّنُهُ في ثياب بيضاء، ونُصَلِّي عليه وندعو له بالرحمة والمغفرة، ثمّ بعد ذلك أوجب علينا أن ندفنَه ونواريَه في التراب، ثم بعد ذلك نزور القبور وندعوا لأهلها من المسلمين".

وشدّد على أنّه "ليس مشروعاً في الإسلام أن يُحْرَقَ الميت بل هذا امْتِهَانٌ له وحَطٌ من كرامته، فقد حَرَّمَ الإسلام أن يُدَاسَ ويُمْشَى ويُقعد على قبر الميت، فكيف بحرقه! غير أنّ للميّت حرمة كحرمة الحي فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حيا)، فإذا كان كسر عظامه ميتاً بمثابة كسرها حياً، فهذا يعني أنّ إحراقه بعد موته بمثابة إحراقه وهو حي، وهذا التشبيه كاف في الزجر عن هذا الفعل والتشنيع على مرتكبه".

أمّا الكنيسة الغربيّة، وعلى الرغم من أنّها كانت تحرّم حرق الجثث، باعتباره يتعارض مع تعاليم البعث يوم القيامة، فقد خفّفت من القيود كثيراً في العقود الماضية، وبدأت بالسماح بحرق الجثث في عام 1963. وفي تشرين الأول من 2016 قال الفاتيكان في وثيقة إنّه يفضل دفن جثث الموتى بدلاً من حرقها، لكنّه أوصى بالإبقاء على رماد الجثث التي يجري حرقها في "مكان مقدس" وعدم الإبقاء عليها في المنزل أو تقسيمها بين أفراد الأسرة أو نثرها في الهواء.

90 % من الناس يرفضون الحرق في الدول العربيّة

من جهته أجرى موقع "الصفا نيوز" استفتاء رأي على مواقع التواصل الاجتماعية التالية: فايسبوك، لينكد إن، وتويتر، بعنوان "هل تؤيدون حرق الجثّة ام دفنها ولماذا؟" لتأتي 90% من الأجوبة مؤيّدة للدفن ومعارضة للحرق لأسباب بمعظمها دينيّة. ما قد يشير إلى أنّ مسألة حرق الجثث لا تزال بعيدة عن ثقافة المجتمعات العربيّة. إلاّ أنّه وخلال بحثنا عن ظاهرة حرق الجثث في الدول العربيّة، كان من المدهش أن نجد في القانون المصري 5 لسنة 1966 وتحديدا المادة 19 من قانون الجبانات، منح أيّ مواطن الحقّ كتابة في طلب حرق جثته بعد وفاته وكانت ديانته تجيز ذلك. ونظّم القانون كيفية حرق الجثث في أفران معدّة لذلك لها مواصفات وترخيص خاص بالجهة التي تقوم بذلك وكيفية التخلص من الرفات بعد حرقها.

وفي هذا الإطار يقول أحد مؤيدي فكرة حرق الجثة بدل دفنها في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، إنني "بالدرحة الأولى سأتّخذ خيار التبرع بالأعضاء، وثانياً ما يتبقّى من جسدي بعد الحرق أفضّل أن يتم نثره بالجو بمكان أنا أختاره، فبرأيي مسألة حرق الجثة أفضل من دفنها من ناحية حماية البيئة. ولا أمانع أن تترك أسرتي جزءًا من رمادي في البيت. فقرار الحرق بالنّسبة لي أفضل من تخيّل الجسد تحت التراب. ففي كلا الحالتين (الحرق أم الدفن) لن يشعر الشخص بما يصيبه".

وتابع "أفضّل أن أختار أن تتطاير رفاتي في الهواء ليعلق بعضها في غصن شجرة كذكرى. كما أفضّل أن تبقى رفاتي موجودة في مكان جميل، يمكن زيارته، بعكس المقابر المليئة بالحزن والأسى".

ورأى أنّ "بهذه الخطوة نوع من الحريّة، حيث يتبعثر الرماد في الطبيعة، بدل أن ينحصر في مقبرة.

كما أنّ طقوس الحرق تبقى أقلّ كلفة من طقوس الدفن، من حجز موقع قبر او حتى مراسم الدفن والتابوت الخشب ونقل الجثمان من المستشفى إلى المقبرة وفتح صالون الكنيسة او قاعة المسجد او المراكز الثانية "، معتبرا أنّ "الدفن بالطريقة التقليدية مكلف وخال من الشاعرية".

حرق الجثث مشرّع في لبنان

أمّا في لبنان، فتوفّر مستشفى أوتيل ديو ومستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت خدمة حرق الجثث. وإلى ذلك تواصل موقع "الصفا نيوز" مع الوزير السابق محمد جواد خليفة، الذي شرح في حديث خاص أنّ "قضيّة وجود المحارق في المستشفيات قديمة، وهي كانت تستخدم بالأساس للتخلّص من بعض البقايا البشريّة، وهي من ضمن العمليات التي تحافظ على احترام الجثث والخلايا وغيره".

وعن حرق الجثث بدل دفنها بالتحديد قال إنّ "هناك العديد من المواطنين والمرضى ونتيجة معتقداتهم يوصون بحرق جثتهم، بعد وفاتهم والمستشفى تنفّذ ذلك بناء لرغبة صاحب الوصيّة. وذلك طبعا بعد أخذ

موافقة الطبيب الشرعي والجهات المختصة في الدولة من نيابات عامة وغيرها للتأكد من أن الجثة التي سيتمّ حرقها، شهدت حالة وفاة طبيعيّة وليس نتيجة محاولة قتل، منعًا لمحو الأدلّة".

ولفت إلى وجود "check list على المريض أو أهله تعبئتها، بالتنسيق مع الجهّات الرسميّة المعنيّة، ومن بعد انتهاء الإجراءات القانونيّة، تعاد الجثّة إلى قسم التشريح المعني، والذي بدوره يقوم بعملية الحرق، إمّا بحضور أفراد العائلة أو لا، وذلك بحسب وصيّة المتوفّي".

وبدورها لفتت مصادر متابعة للملفّ إلى أنّ "حالات حرق الجثث بدل دفنها تشهد إقبالا أوسع منذ بدء أزمة كورونا في لبنان. وكانت كلفتها قبل الأزمة 4000 دولار على سعر صرف 1500 ليرة. وهي تحتاج إلى تقرير طبيب شرعي، يؤكّد أنّ طالب الخدمة بكامل قواه العقليّة ولا يعاني من اكتئاب. ويحتاج إلى ورقة موافقة من كاتب العدل ومن أهل المريض. وترسل هذه المستندات إلى مدير المستشفى أو الشخص المختصّ بهذه العمليّة".

وتكشف المصادر أنّ "فكرة حرق الجثث بدل دفنها، تشهد اعتراضاً كبيراً في لبنان، خصوصاً من قبل رجال الدين، الذين كانوا يرفضون في السابق تطبيق وصيّة الميّت بحرقه بدل دفنه. أمّا في الآونة الأخيرة فباتت هذه الظاهرة تشهد قبولا أكبر".