نعرف أساطير حضرية تمتلك قوّة غامضة تجعلها تتحدّى مرور الزمن. إنّها قصص خيالية تعكس أمانينا وأحلامنا التي نتمنّى أن تتحقّق مع نضوجنا. أحلام تبدو بعيدة جدًا عن الواقع، وتتركنا نتساءل عن إمكانية تحقيقها. فمن بين هذه الأساطير، تبرز فكرة "الزواج الفرنسي-الألماني" كواحدة من أكثرها صمودًا. إنّها فكرة تعود إلى السياسة والتاريخ الأوروبي، تستمرّ في التأرجح وسط آراء متباينة تنبع من دولها الأعضاء المتعدّدة. لكن عندما نلقي نظرة أقرب على هذا "الزواج الفرنسي-الألماني"، ندرك أنّه في الواقع هو مجرد بنية فكرية سياسية فرنسية حصراً، يتمّ تجاهلها تمامًا على الصعيدين السياسي والثقافي في ألمانيا.
هذه هي الحقيقة القاسية التي يجب على العالم أن يدركها
ليس بإمكان هذا الزوج أبدًا أن ينفصل، لأنّه لم يكن موجودًا بالفعل. الشخصيات البارزة التي قادت هذه الزيجات المؤقّتة، مثل دي غول وآدناور، أو جيسكار وشميت، وحتى ميتران وكوهل، قد طبعت تاريخ العلاقات الفرنسية-الألمانية بالوحدة والانسجام. لكن بمجرّد رحيل هؤلاء الزعماء الكبار، بدأ هذا الزواج يكشف عن نفسه كهيكل فارغ وبسيط، يشكّل مجرد ستارة تمثيلية.
هذه هي الحقيقة القاسية التي يجب على العالم أن يدركها، أنّ هذا الزواج لم يكن أكثر من خيال سياسي فرنسي لا تأثير له في الأوساط الألمانية، ولن يكون له يومًا مكانًا في الواقع السياسي الحالي.
في أوروبا، تُعدّ فرنسا وألمانيا من أبرز القوى الريادية، لكنّ الاتفاق بينهما في مجالات عدّة لم يكن أبدًا أمرًا سهلاً. فمن جهة، تتبنّى فرنسا سياسة مالية سخيّة، حيث تنظر إلى الإنفاق بدون تقدير كمبدأ جوهري. بينما ترث ألمانيا من تاريخها ماضٍ مؤلم مليء بالتضخّم الفائق، ممّا يجعلها تتمسّك بالصرامة والتقشّف.
وفي ما يخصّ التنمية الطاقية لصناعتيهما، تختلف وجهات نظرهما بشكل واضح، حيث قام حزب الخضر الألماني بمحاربة الطاقة النووية الفرنسية بشكل حثيث، بهدف الحدّ من الاعتماد على مصادر الطاقة الرخيصة والوفيرة في بلادهم. بالإضافة إلى أنّ حزب الخضر الألماني عمل على إقناع المواطنين بأهمية إنتاج الكهرباء باستخدام محطّات الفحم!
وفي ما يتعلق بالدفاع، الذي كان يجب أن يكون محورًا لتشكيل جيش أوروبي موحّد، انقسمت وجهات نظر هاتين الدولتين اللتين كانتا في الماضي في حروب متكررة. فمن المُضحك تذكّر الزمن الذي كان فيه الجيش الأوروبي المشترك الفرنسي-الألماني يمارس التفتيش في 14 تموز 1994! حيث رأينا في تلك العام الدبابات الألمانية تجتاح شوارع شانزيليزيه للمرّة الأولى منذ الاحتلال النازي! السياسة تعكس العديد من الرموز، لكنّ الزوجين يحتاجان إلى تقديم أدلّة حقيقية لحبّهما، وليس مجرّد إعلانات!
ابتداءً من عام 2014، شرعت ألمانيا في صياغة مفهوم مُبتكر يُعرف بـ "الأمّة القائدة" داخل منظّمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). هذا المفهوم يهدف إلى تحويل الجيش الألماني إلى مركز لدمج القوات العسكرية الأوروبية الأصغر حجمًا. لتحقيق هذا الهدف الطموح، قامت ألمانيا بتطوير قدرات قيادية واتّصال وتنسيق ضخمة. ويُظهر الواقع اليوم أنّ هذه العملية قد تقدّمت بشكل ملحوظ مع هولندا، حيث تمّ دمج الفرق الثلاثة التابعة للجانبين بشكل كامل داخل الهياكل الألمانية المعنية. وهناك معلومات تُشير إلى أنّ دولًا أخرى مثل المجر وليتوانيا قد تكون على وشك التحاق جزئي على الأقلّ بهذا الإطار المتكامل".
هذا ما أوضحه الباحث ليو بيريا-بينييه من معهد العلاقات الدولية الفرنس (IFRI)، وبهذا السياق، ينضج التصوّر العسكري الألماني بسرعة داخل منظمة الناتو، بينما تواصل فرنسا المحافظة على موقفها الغامض تجاه الناتو، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رئيسي.
في باريس، حيث تُظهر الصورة النمطية لـ "الزوج الفرنسي-الألماني" وحدتهما في قضايا الدفاع، تُفضِّل الإشادة بألمانيا كشريكها العسكري الأول في أوروبا. لكنّ هذه الصورة لم تعد واقعية بالنسبة لبرلين منذ وقت طويل. أصبحت هولندا هي الشريك العسكري الرئيسي لألمانيا في أوروبا. والهياكل العسكرية المشتركة التي تمّ إنشاؤها في السابق أصبحت مهملة بشكل كبير. فاللواء الفرنسي-الألماني فقد معظم قوّته وبشكل كبير منذ نهاية التشارك بين الوحدات الفرنسية والألمانية، وانقطع تقريبًا التعاون بين البحريتين. الشيء الوحيد الذي استمرّ هو وجود بعض الهياكل المشتركة لتدريب قوات الجو"، حسب ما أفاد به خبير من معهد العلاقات الدولية الفرنسي لصحيفة "لوفيغارو". منذ مدّة طويلة، تمّ تعليق المشاريع الصناعية الكبرى التي كانت تجمع بين فرنسا وألمانيا. فمشروع الطائرة المستقبلية (SCAF)، والدبابة المستقبلية (MGCS)، والمدفعية المستقبلية (CIFS)، والطائرة البحرية المستقبلية (MAWS)، كلّها باتت في حالة تجميد وتعليق.
زواج القوى بين فرنسا وألمانيا كان مجرّد وهم، حيث أنّ الدول لا تتزوج ولا تتشكّل في أزواج على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فما يربط بين هاتين القوتين هو ليس حبًا أو صداقة، بل هي مصالح وطنية يجب على كلّ منهما الدفاع عنها. حتّى في إطار مشروع البنية الأوروبية، تتصارع باريس وبرلين حول توجهاتهما.
إلّا أنّ رؤية أوروبا تختلف بشكل كبير بين القائدين الحاليين. خلال خطاب ألقاه في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، دعا المستشار الألماني أولاف شولتس إلى استراتيجية أوروبية تستند إلى تعاون متكافئ مع الولايات المتحدة، ووصفها بأنّها "أهم حليف لأوروبا". على الجانب الآخر، تسعى فرنسا إلى الحفاظ على استقلاليتها وعدم التبعية للولايات المتحدة.
إذاً، هل تملك فرنسا القدرة على رفض هذا "الزواج القسري"، وهذا بعد تصاعد التوتّرات في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا؟