رمت السلطتان السياسية والمالية مسؤولية معالجة تداعيات الانهيار، على المصرف المركزي وتفرّغتا للمناكفات. حاكم الأخير، الغارق في بحر التجاوزات على مدار السنوات الماضية، لم يخش بلل التفريط بما تبقّى من أموال المودعين، فتلقّى كرة النار برحابة في صدره. فأصدر منذ نهاية العام 2019 حزمة من التّعاميم التي لا ترتبط فقط بالسياسة النقديّة، إنّما بالسياستين الاقتصادية والاجتماعية. من هذه التعاميم ما قضى نحبه في "معركة" الدّعم، ومنها ما هو مستمرّ خلافاً للمنطق.
لا دولار بـ "الزائد" في التعميم 158
من التعاميم المستمرّة والمطبّقة، يبرز التعميم 158. وهو التعميم الذي يفتخر الحاكم الجديد لمصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري بـ "تبنّيه والمحافظة عليه". ويقضي التعميم، بعد تعديله، بتسديد ما بين 300 دولار للمشتركين الجدد، و400 دولار للقدامى بـ"الفريش"، ومن دون أي اقتطاع، وبشرط أن يكون تاريخ الوديعة يعود إلى ما قبل تشرين الاول 2019. التعميم على أهميته يثير اعتراض شريحة واسعة من المودعين سواء كانوا من المستفيدين أو غير المستفيدين. فالشريحة الأولى تطالب برفع سقف المبالغ الشهرية، لأنّها لا تكفي لتمويل فاتورة الاستهلاك. فيما تطالب الثانية بتوسيعه ليشمل الذين قبضوا تعويضاتهم بعد العام 2019، وأولئك الذي حوّلوا أموالهم من مصرف إلى آخر بعد اندلاع الأزمة، وذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السنّ من المودعين، ممّن أصبحوا عاجزين عن العمل والإنتاج. وأمام هذه المطالب المحقّة، يؤكد منصوري أنّ "هناك استحالة بتوسيع رقعة التعميم، وزيادة دولار واحد للمستحقّين، قبل إقرار القوانين الإصلاحية، وفي مقدّمها قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ووضع الإطار القانوني لإعادة أموال المودعين. وعندها تتوسّع شريحة المستفيدين نوعياً وكميّاً بشكل تلقائي. فالمصارف تصبح من جهة أكثر قدرة على رفع قيمة السحوبات. ومصرف لبنان من الجهة الثانية يصبح بإمكانه وضع السيولة المتبقّية لديه بقيمة 8.5 مليار دولار بشكل تدريجي بتصرف المودعين".
الخطّة الحكوميّة تقضي على التعميم 154
لم يكن من الممكن التوصّل إلى التعميم 158، وإعادة جزء من الودائع بالدولار لولا صدور التعميم 154 في أيلول من العام 2020. فبعد نحو أربعة أشهر على تعيين المجلس المركزي لمصرف لبنان، بادر إلى إلزام المصارف زيادة سيولتها بنسبة 20 في المئة، ورفع قيمة التحوّط على سندات "اليوروبوندز" بكونها أصبحت ديوناً معدومة. وقد نتج عن هذا القرار رفع رساميل المصارف بقيمة 4 مليار دولار، وتكوينها 3.4 مليار دولاراً من النّقد الطازج في المصارف المراسلة في الخارج. كما أدّى رفع "خسائر الائتمان المتوقعة" (ECLs)، على سندات "اليوروبوندز" من 45 إلى 75 في المئة إلى تأمين 6 مليارات "لولار". ممّا سمح للمصارف المضي قدما بتطبيق التعميم 158 وتسديد الدولار للمودعين من السيولة المكونة بالخارج تحديداً. إلّا أنّه بعد مضي عام، ومع الاتجاه لتوسيع العمل بالتعميم 154، لناحية الطلب من المصارف زيادة رساميلها مرة جديدة، وتعزيز ملاءتها، ورفع نسبة السيولة، كانت قد صدرت خطّة التعافي لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، والتي قضت بشطب رساميل المصارف والتعويض على المودعين لحد المئة ألف دولار. "وبغضّ النّظر عن صوابية الخطّة من عدمه، فقد أدّت إلى فرملة العمل بالتعميم 154"، يقول منصوري. "إذ من غير المنطقي طلب زيادة رساميل المصارف في حال كان المطلوب شطبها. وأيّ من المصارف لن يبادر إلى زيادة سيولته واستقطاب استثمارات جديدة في حال كان مصيره الخروج من السوق. من هنا، فإنّ إقرار قانوني إعادة هيكلة المصارف والانتظام المالي أساسيان لمعرفة مصير القطاع، وبالتالي مصير المودعين، وحجم المبالغ التي من الممكن استردادها من ودائعهم".
وداعاً للتعميم 151 وأهلاً بسعر السوق
أما في ما خصّ التعميم 151 والذي يسمح بسحب إلى حد 1600 دولار بالليرة على سعر صرف 15000 ليرة فقد طواه النسيان، مع تخفيض سعر الصرف الرسمي في موازنة 2022 إلى 15 ألف ليرة. ويؤكّد منصوري أنّ "المصرف المركزي لن يقف عائقاً في وجه المودع لسحب ودائعه بسعر الصرف الرسمي عندما تصدر موازنة 2024". أي على سعر 85 ألف ليرة. إلّا أنّه في المقابل فإنّ "هذه العملية تنطوي على مخاطر قد تفوق إيجابياتها، في حال أُقرّت بمعزل عن الإصلاحات الضرورية، وفي مقدمتها إعادة هيكلة المصارف، والكابيتال كونترول. خصوصاً أنّ المصارف لا تملك السيولة والأموال الكافية لتسديد الالتزامات".
التعاميم مؤقّتة
على الرغم من ضرر أغلبية التعاميم والفائدة المحققة من بعضها، فإنّ القاعدة العامّة تنصّ على أنّه "ليس مطلوباً من المصرف المركزي إيجاد حلول للأزمة، ولا يملك من الإمكانات والصلاحيات القانونية ما يخوّله ذلك"، يشدد منصوري. "والتعاميم تصدر لشهرين أو ثلاثة، ولا يجوز بأيّ شكل من الأشكال، أن تترك مفتوحة، تمتد لسنوات كما هو حاصل اليوم في لبنان". إلّا أنّ غياب الإطار القانوني في الفترة الزمنية الماضية، هو الذي أدّى إلى الأزمة التي نعيشها اليوم. وفي حال لم تبادر الدولة إلى إقرار القوانين الإصلاحية فإنّ كلّ محاولات الترقيع ستبقى عبثية وستزيد مفاقمة الأمور سوءاً.
إلى أنّ تقرّ القوانين يقترح منصوري بصفته الشخصيّة "إزالة المتاريس بين المصارف والمودعين، والعمل بشكل متكامل على إطلاق عمل القطاع المصرفي الذي يعتبر محورياً في الحياة الاقتصادية. وهذا لن يتمّ في حال ضمان عودة الإيداع والإقراض بـ "الفريش"، دولار مع ضمان إعادة المبالغ بنفس عملة الإقراض". وعلى الرغم من رفض المودعين المحقّ بالتمييز بين الودائع القديمة والجديدة فإنّ "إطلاق العمل المصرفي قد يضمن تجيير 50 في المئة من الأرباح للمودعين القدامى، و50 في المئة تبقى لتشغيل لقطاع. وبهذه الطريقة نخطو الخطوات الأولى في عملية إعادة الهيكلة وإرجاع الحقوق لأصحابها".
يقول الكاتب البريطاني الشهير جورج برنارد شو"قبل أن تبدأ بالشيء، عليك أن تفكّر كيف تنهيه"، وهذا ما لم تفعله السلطة السياسية عندما فوضت صلاحياتها للمركزي. فتحوّل المؤقّت من الإجراءات النقدية، إلى دائم، لحلّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية... وهذا بيت الداء، المستمرّة ببنائه بعيداً عن المنطق والمصلحة العامة".