تعاني البلديات في لبنان من حالة موت سريري، بعد فقدانها شرعيّتها القانونيّة والدستوريّة، وبقائها في حالة تصريف أعمال، دون موظفين، ولا موارد ماليّة. ما أضعف دورها، وسلبها قوّتها.
بحسب أرقام حديثة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، يوجد في لبنان 1059 بلدية فيها 12 ألفاً و741 عضواً. وبعد الانتخابات البلدية الأخيرة عام 2016، أصبحت 108 بلديات، بعضها منحلّة يديرها القائم مقام أو المحافظ، أي بنسبة 10% من عموم البلديات.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد على الأراضي اللبنانية 3018 مختاراً، يتولّون ملفّات حيوية وضرورية للمواطنين كإصدار وثائق الولادات والوفيّات وتنظيم معاملات جوازات السفر والهويات وغيرها.
وتعاني البلديّات اليوم من شلل حقيقي، سببه الرئيسي عدم إجراء وزارة الداخليّة والبلديّات الانتخابات البلديّة في موعدها، بل تأجيلها للمرة الثانية خلال سنتين. إلى جانب الشحّ المالي الكبير، والعجز، مما أعاق تأدية دورها الإنمائي وغيّب المشاريع.
3 مشاكل رئيسيّة تؤّجج أزمة البلديات
وهو ما تؤكّده رئيس جمعيّة Onde، فيكتوريا زوين في حديثها لموقع "الصفا نيوز" مشيرة إلى أنّ "فقدان الليرة لقيمتها هي من أكبر المشاكل التي تعاني منها البلديّات، الأمر الذي أثّر على موازنة البلديات والمشاريع الموضوعة، وعلى رواتب موظّفي البلديّة الذين كانوا يتّكلون على خدمات الطبابة التي توفّرها هذه الوظيفة، ما أثّر على انتاجيّتهم. حيث تراجع عدد الموظفين في البلديّة، وأصبح هناك نقص حادّ في أبسط الخدمات البلديّة، كالحراسة الليليّة، صيانة الطرقات والإضاءة، تنظيف الطرقات، التخلّص من النفايات...".
وتتابع زوين "النّقص في الإمكانيّات الماديّة، وتراجع انتاجيّة معظم الموظّفين، وتأجيل انتخابات البلديّة، حوّل واقع البلديّات إلى "تصريف أعمال"، ما ضرب التخطيط، والخدمات الأساسيّة، من مياه وكهرباء، فالمياه مقطوعة والبلديات لا تملك السلطة ولا الإمكانيات لتوفيرها، أمّا أزمة الكهرباء وعلى الرّغم من بعض المبادرات الفرديّة وليس الرسميّة لتركيب إضاءة على الطاقة الشمسيّة، فلم تحلّ في معظم المناطق اللبنانيّة، بسبب عدم ضغط البلديّة على أصحاب المولّدات لإضاءة الطرقات في ساعات الليل من جهة، وعدم قدرة البلديات على حلّ أزمة الكهرباء التي هي من اختصاص وزارة الطاقّة. ما جعل الناس تشعر بالخوف وعدم الأمان في مناطقها".
مشكلة تمويل أساسها القوانين
من المعلوم أنّ الموارد المالية للبلدية نوعان: رسوم مباشرة تجبيها البلدية من المواطنين، ورسوم تحصّلها الدولة وتوزّعها على البلديات. المشكلة في الرسوم المباشرة أنّها غير متلائمة مع الوضع القائم، لأنّ آخر تعديلات أدخلت تعود الى العام 1988. أمّا الرسوم التي تجبيها الدولة، فهي لا تستند الى توزيع عادل يراعي مثلاً عدد السكان في كل بلدية.
في لبنان، يدير البلديّات قانون أُقرّ العام 1977، وحددّ مهماتها في إدارة الشؤون الصحيّة والصحّة العامّة، التمدّن، البناء، الخدمات العامّة، الأمن، تنظيم الطرقات، التخلّص من النفايات وتنظيف الطرقات. ولكنّ الواقع أنّ معظم البلديات اللبنانية لا تتمكّن من القيام بكامل المهمات الموكلة إليها، في ظل تلكّؤ الدولة عن دفع مستحقّاتها، خصوصًا مع عدم وجود رقابة على أموال الصندوق البلدي، وعدم المساواة في توزيع الحصص.
ويعترض بعض القيّمين على العمل البلدي على آلية توزيع أموال الصندوق المستقلّ، إذ انّها لا توزّع بانتظام، مع أنّ القانون ينصّ على ضرورة توزيعها في أيلول من كل سنة بموجب مرسوم.
كذلك، فإنّ البلديات لا تعرف ما هي حصّتها قبل الحصول عليها، ما يعرقِل وضع موازناتها، فكلّ بلدية تملك حسابًا خاصًا في مصرف يتمّ إيداع الأموال المخصصة لها فيه. وهذه الأخيرة فقدت قيمتها بالليرة اللبنانيّة، بعد ارتفاع سعر صرف الدولار. إلى جانب هذه العوامل، فإنّ إقدام الحكومات السابقة على التصرّف بـ 75 في المئة من عائدات الصندوق البلدي المستقلّ وتحويلها الى مجلس الإنماء والإعمار لتمويل بعض المشاريع، أدّى أيضا إلى تقليص واردات البلديات.
كما يشكو معظم البلديات من عدم الحصول على الـ 10 في المئة من فواتير الهاتف والكهرباء والمياه. ومن العوامل الأخرى التي تعيق زيادة الموارد البلدية، مَنع الفوائد على أموال البلديات وإلغاء براءة الذمة من بعض المعاملات. إلى ذلك فإنّ البلدية مضطرة إلى وضع الفائض من أموالها في المصرف المركزي من دون الحصول على الفوائد، بينما إذا اضطرت إلى الاستدانة من الدولة، فعليها دفع فوائد عالية.
كلّ ذلك أدّى إلى أزمة تمويل حقيقيّة وقعت فيها البلديّات، فرضت عليها إيجاد مصادر تمويل خارجيّة لتنفيذ مشاريعها الإنمائيّة. ما جعلها تدقّ أبواب الجهّات المانحة الدوليّة، فيما هذه الأخيرة، وبمعظم الأحيان تعطي مساعدات مشروطة.
تضييق على دور النساء في العمل البلدي
فضلاً عن المشاكل الماليّة، والإداريّة، وقضايا الفساد التي تعاني منها البلديّات في لبنان تأتي مسألة التضييق على النساء ومحاولة تغييب دورهنّ في العمل البلدي لتزيد الطين بلّة. وهو ما تشرحه رئيسة بلديّة كفرنبرخ وسام شامي في حديثها لموقع "الصفا نيوز" مشيرة إلى "أنني تعرّضت للتمييز لمجرّد كوني إمرأة. وبعد فوزي في الإنتخابات، اكتشفت أكثر من ملفّ فساد، وعالجتهم، حتّى أنّه عرض عليّ رشوة بمليون دولار للتستّر على أحد الملفّات. وهو يتعلّق بشركة كانت تحتكر تحليل إحدى الفوالق في المنطقة الموزّعة على مسافة كبيرة والتي كانت تهدّد أمن السكّان، فيما هذه الشركة لم تكن تؤدّي عملها كما يجب. لذا قمت بكسر هذا الإحتكار ورفضت الرشوة. ونتيجة ذلك هُدّدت وأولادي، ورُشقنا باتهامات باطلة".
وتتابع "حاولت منذ استلامي رئاسة البلدية إظهار أداء جديد في العمل البلدي، فتخلّيت عن المستحقّات التي تعطى عادة لرئيس البلديّة، وطالبت بأن تبقى داخل الصندوق البلدي لنستفيد منها بخدمات تنفع المنطقة. وأمّنت هبات بأكثر من مليون ونصف مليون دولار من جهات مانحة لتنفيذ مشاريع إنمائيّة في البلدة. حتّى أنني كنت أخلّص بنفسي معاملات الموظفين".
وتقول شامي "إلاّ أنّني حُوربت كثيراً طوال الـ4 سنوات من استلامي لرئاسة البلدية، على الرّغم من كلّ العمل والنجاحات التي حقّقتها في عملي البلدي، حتّى تمّ اقناع أعضاء البلدية على الإٍستقالة وطرح الثقة، لتفرط بذلك البلديّة. فبحسب القانون، تتضمّن البلديّة 15 عضوا، وفي حال استقالة النصف زائد واحد يفرط المجلس البلدي. وتبيّن في ما بعد أنّ أحد الأعضاء كان وراء عمليّة طرح الثقة، لأنّ خصومي في السياسة كانوا قد وعدوه بأن ينصّبوه رئيساً للبلدية في الدورة المقبلة. حتّى أنني قاومت كثيراً، وحاولت قدر المستطاع الدفع باتجاه تنفيذ مشاريع تنمويّة، إلاّ أنّ أيّ مشروع يحتاج إلى توقيع 10 أشخاص لتنفيذه، وكنت أجد صعوبة باقناع الأعضاء به، حيث كانوا يمتنعون عن الموافقة على أيّ مشروع لكيديّات سياسيّة. حتى أنّ نفس الذين ساهموا بفرط البلديّة عادوا وترشّحوا. وطالبتهم بمناظرة علنيّة إلاّ أنّ لا أحد منهم تجرّأ على مواجهتي. وحاولت بأكثر من مناسبة نقل المشاكل والصعوبات التي كنت أواجهها في البلديّة إلى وزير الداخليّة في حكومة تصريف الأعمال بسّام المولوي، إلاّ أنّ مولوي عجز عن مساعدتي".
ما الحل؟
من جهتها تلفت فيكي زوين إلى أنّ "هناك العديد من النساء اللواتي أثبتن أنفسهن في العمل البلدي، على الرغم من محاولة البعض حصر عملهنّ في بعض اللجان، كلجنة المرأة أو الثقافة.إلخ. في محاولة لتنميط عمل المرأة في المجتمع، وحصرها في أدوار معيّنة. هذا وتتعرّض الكثير من النساء إلى التمييز الجندري والعنف اللفظي والذي يتجلّى على سبيل المثال بمظاهر سخرية من عدم معرفتهنّ بأمر معيّن في حال طلبن الاستفسار عن شيء ما، بينما لو كان السائل رجل فلن يعامل بنفس الطريقة. ما يضع النساء تحت ضغط كبير".
وعن الحلول التي يمكن تأمينها تقول "نسعى في الجمعيّة، إلى تشبيك الخبرات بين النساء في البلديات، وتوسعة شبكة علاقاتهنّ، ووصلهنّ بخبراء وخبيرات في شتّى المجالات القانونيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة... كما أننا نعرض المشاكل بهدف إيجاد الحلول، وأمّنا منصّة إلكترونيّة تسمح للنساء بأن تتشاركن تجاربهنّ في العمل البلدي، وطرح مشاكلهنّ، على مجلس استشاري مؤلّف من خبراء وخبيرات، يتابعون الملفّات معهنّ. كما يزوّد الموقع السيدات في البلديات والمواطنين كافّة بآخر القوانين والمراسيم الصادرة. وينطوي هذا الموقع تحت مشروع "هي بلديتي" المدعوم من Global affairs canada، وبالشراكة مع Oxfam – Quebec و Oxmaf – Lebanon ، والذي يشمل أيضا حلقات حواريّة بالأماكن العامّة (بهدف استرجاع الأماكن العامّة كبيئة حاضنة للنقاشات السياسيّة)، مع التركيز على دو رالبلديات وأهميّة إجراء الإنتخابات البلديّة ومشاركة النساء في صنع القرار السياسي في لبنان. وهذه النشاطات تنتشر في جميع المناطق اللبنانيّة كصوفر ونبع ابراهيم والنبعة... كما نساعد الأشخاص الذين يشكّلون لوائح انتخابيّة للبلديّة، على كتابة برامج إنتخابيّة بالتشارك مع المواطنين، برامج تراعي مشاكل واحتياجات المواطنين وحاجات المناطق، بهدف إيصال أشخاص يملكون معرفة عميقة بمشاكل مناطقهم ولديهم الحلول".
في المحصّلة، لم تعد أزمة البلديات محصورة بمشكلة واحدة فقط، بل تفاقمت لتشمل سلسلة من المعوّقات، تبدأ بملفّات فساد لا تعدّ ولا تحصى، وتنتهي بتضييق على النساء الأعضاء. وأمام هذا الواقع، تقف السلطة متفرّجة غير آبهة، فيما تتلاشى يوماً بعد يوم البلديات في لبنان، وتخسر قوّتها، لتصبح المناطق "سايبة والربّ راعيها".