العالم تغير وإفريقيا تغيّرت ولم تعد فرنسا هي هي في زمن الشيخوخة الكولونيالي
خرجت باريس من النيجر وأعلنت رسمياً إنهاء وجودها العسكري في هذا البلد الذي يختصر القصّة الافريقية لفرنسا، وكأنّ ما يحصل إعلان بداية أفول امبراطوريتها.
لكلّ امبراطورية نقطة تحوّل نحو النهاية. انهيار جدار برلين كان المؤشّر الأوضح لنهاية الامبراطورية السوفياتية. عودة ماكاو إلى وطنها الأم الصين، طوى صفحة الامبراطورية البرتغالية التي عاشت العمر الأطول بين الامبراطوريات الأوروبية. تأميم قناة السويس عام 1956 كانت اللحظة التي قصمت ظهر بريطانيا أكبر الامبراطوريات في التاريخ.
لكلّ امبراطورية نقطة تحوّل نحو النهاية
خسارة فرنسا المدوية على أيدي الفيتكونغ في ديان بيان فو الفيتنامية عام 1954، أخرجتها من الهند الصينية. استقلال الجزائر عام 1962 كان الضربة القاضية لرمزيتها الاستعمارية. لكن فرنسا لم تيأس، استبدلت الاستعمار العسكري المباشر في الدول الإفريقية باستعمار مبطّن ثقافي ومالي، عبر إنشاء الرابطة الفرنكوفونية أولاً، ثمّ بربط الفرنك الإفريقي لدول غرب ووسط إفريقيا بالفرنك الفرنسي، عبر مصرفها المركزي ومطابع عملتها، الأمر الذي مكّنها من الاستحواذ سنوياً على ما يعادل الخمسمئة مليار دولار من العوائد الإفريقية، والتي تشكّل ربع الناتج القومي الفرنسي إجمالاً، وتاليا مصدراً كبيراً لغنى فرنسا ومكانتها الدولية. أعطت باريس الأولوية لمصلحها الاقتصادية، وسخّرت كلّ طاقاتها من أجل ذلك، ولم تتردّد عن استخدام القوّة المفرطة وسلاح الانقلابات من أجل حماية هذه المصالح. لذلك حافظت على وجود عسكري كبير من خلال اتفاقات التعاون الدفاعي والعسكري مع دول إفريقية منحت القوات الفرنسية تفويضاً واسع النطاق للتدخّل، وضمان السلامة الإقليمية للدول الإفريقية وتقديم التدريب العسكري مقابل الحقّ في استثمار المواد الخام مثل الاورانيوم والبوكسيت والكاكاو والنفط والنحاس وغيرها قبل الآخرين. وقد ضمن هذا الترتيب إطالة عمر أصدقاء فرنسا على رأس الحكومات في دول إفريقية كثيرة.
تعرّض نفوذها لنكسات كبيرة في زمن الاشتراكية والقطبية الثنائية وتنامي النزعة التحرّرية في الستينات والسبعينات، لكنّها استعادت ما خسرته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وملء فراغه الإفريقي. ثم انتكست مجدّداً في التسعينات بعد خسارتها حلفائها الأفارقة الكبار كالرئيس العاجي الراحل فيليكس هوفويت بوانيي، وبالأحداث الرهيبة التي وقعت في رواندا عام 1994، بعدما اتّجهت أصابع الاتّهام نحو باريس ، حتّى بات على فرنسا إعادة رسم سياساتها الإفريقية، لكنّها لم تفعل. حاول الرئيس مانويل ماكرون فعل ذلك متأخّرا واستعادة زمام المبادرة لكنّ العالم تغير وإفريقيا تغيّرت ولم تعد فرنسا هي هي في زمن الشيخوخة الكولونيالي. الانفتاح الديبلوماسي واللفظي على الدّول النامية وحده لا يكفي. تراكم الضغينة الشعبية بين المجتمعات الإفريقية لا تبدّد أجواءها المكهربة بضع منح دراسية في الجامعات الفرنسية المتراجعة عالمياً، ولا اللغة الفرنسية التي انحسر دورها، ولا المساعدات العينية التي لا تغن عن جوع مستفحل ولا تشف من أمراض متفشية. فرنسا ليست وحدها من يتقن قراءة المفردات والانتروبولوجية الإفريقية، الصين مثابرة وتعرف ماذا تريد. روسيا وريثة الاتّحاد السوفياتي تعرف عن ظهر قلب الجغرافيا والمسالك الإفريقية، وتحسن أيضاً بيع البضائع العسكرية والأمنية، ولديها مجموعة تعزف لحن "فاغنر" وقادرة على فعل أي شيء. تركيا ليست بعيدة عن خطّ السير الإفريقي. كلّ هؤلاء على خصومة مع فرنسا. حتّى أميركا لم تتوان عن توجيه الصفعات المؤلمة لحليفتها في القارّة السمراء. من بين 27 انقلاباً حدث في إفريقيا غير العربية منذ عام 1990، حدث 78 في المئة منها في الدول الناطقة بالفرنسية.
المسار الكولونيالي الفرنسي مسار هابط، صحيح أنّ انقلاب النيجر هو أحد محطات هذا المسار، لكنّه في توقيته وحدّته ونتائجه الحاسمة والمهينة لباريس، قد يكون بمثابة انهيار "جدار برلين " الفرنسي والمنعطف الفاصل نحو أفول الامبراطورية الفرنسية.