وجدت السّلطة أنّ أفضل الحلول هو "الهروب" عبر تقاذف المسؤوليات. وبهذه الطريقة "لا تسوّد وجهها" مع أحد. لا مع الدول، ولا مع المودعين؛ ولو كان ذلك على حساب موت الاقتصاد على مراحل، ووصوله إلى نهايته المحتومة، إنّما بعد حين.
بين دعوته إلى "الاعتراف بالخسائر"، وبين "تقديس" المسؤولين "كلّ الودائع"، رجع وفد صندوق النّقد الدولي من زيارته لبنان بـ "خُفّي حُنين". ومهما طالت أو قصرت غيبته عن بلاد "الإنكار" سيجد الصندوق الوضع في لبنان على "حطة يده". فخلافاً لكل "الحشو" في خطابات تقاذف المسؤوليات بين الحكومة والبرلمانيين، على إقرار الإصلاحات المشروطة، تكمن العقدة الاساسية في مسألة "توزيع الخسائر".
بالرّغم من تيقّن الجميع أنّه من الاستحالة بمكان إعادة ما يقرب من 94 مليار دولار من الودائع، حتّى لو سخّرنا أملاك الدّولة ومؤسّساتها لعشرات السنوات، يستمرون بلعبة " kick the can down the road". أي تأجيل مواجهة المشكلة الأصعب واتّخاذ القرار المفصلي بشكل مستمرّ. وهم يسخّرون للغاية كلّ إمكانياتهم "الولاّدية" و"شيطناتهم" التي تؤدّي إلى انهيار القدرة الشرائية، وارتفاع معدّلات التضخم، وتفريغ المؤسسات، وازدياد معدّلات الفقر وتحلّل الدولة.
بالرّغم من تيقّن الجميع أنّه من الاستحالة بمكان إعادة ما يقرب من 94 مليار دولار من الودائع
طاحونة الصندوق والمودعين
يقع المسؤولون اللبنانيون بين حجري رحى صندوق النقد، ومن خلفه المجتمع الدولي، من جهة، والمودعين، ومن خلفهم المصارف، من الجهة الثانية. فعدم الالتزام بشروط صندوق النّقد التي تدعو إلى شطب الودائع وتحمّل المصارف الخسائر، لن يفوّت على لبنان الثلاثة مليارات دولار فقط، إنّما سيحرم البلد من "ختم" الصندوق الذي يعتبر مدخلاً أساسياً لاستعادة الدّول ثقتها بلبنان، ومساعدته على كلّ المستويات. في المقابل فإنّ الاعتراف بالخسائر لن يؤدّي إلى فقدان جزء من المودعين، يملكون الثّقل الأكبر، أموالهم فحسب، إنّما سيهدّد بانهيارات بـ "الجملة" في البنوك ويقوّض الثقة بالنظام المصرفي، ويدفع نحو قطع الأمل باستعادة لبنان عافيته. وبين الطاحونتين العملاقتين اللتان تدوران ببطء، وجدت السّلطة أنّ أفضل الحلول هو "الهروب" عبر تقاذف المسؤوليات. وبهذه الطريقة "لا تسوّد وجهها" مع أحد. لا مع الدول، ولا مع المودعين؛ ولو كان ذلك على حساب موت الاقتصاد على مراحل، ووصوله إلى نهايته المحتومة، إنّما بعد حين.
صندوق النقد والمسؤولين
المثال الأبرز على السياسة المتّبعة تمثّل في الردود التي أعقبت انتهاء وفد صندوق النقد الدولي برئاسة ارنستو راميرز ريغو زياته التفقّدية للبنان. فعلى الرّغم من انتقاد بيان الصندوق الختامي التأخّر في إقرار الإصلاحات ولاسيّما المتعلّقة بمجلس النواب، وتعليقه السّلبي على موازنتي 2023 و2024، اعتبرت كلّ جهة أنّها تفعل الصواب. فمقابل قول الصندوق أنّ "موازنة 2023 أتت خارج المهل، ولا تعكس بشكل دقيق حجم العجز. وأنّه على موازنة 2024 أن تتجنّب المعاملة التفضيلية لدافعي الضرائب، وتتضمّن موارداً كافية لإعادة بناء الإدارة الضريبية لتعزيز الامتثال وتحسين العدالة الضريبية". اعتبر وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل في بيان، أنّ "ما صدر عن صندوق النّقد الدولي يعدّ توصيفاً دقيقاً للواقع المالي والنقدي والاقتصادي، ويتطابق مع رؤية وزارة المالية وينسجم مع ما بدأته من خطوات تصحيحية عبّرت عنها ما تضمّنته الموازنات المتتالية للأعوام 2022 و2023 و2024، والتي أدّت بشكل رئيسي إلى زيادة في الواردات، وساهمت في الأشهر الأخيرة في ما نشهده إلى حدّ معقول من استقرار مالي ونقدي في سعر الصرف".
أمّا انتقاد صندوق النّقد الدولي التأخّر في إقرار الإصلاحات أو إقرارها مشوّهة بقوله إنّ "غياب خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أدّى إلى انخفاض كبير في الودائع القابلة للانتعاش، وأعاق توفير الائتمان للاقتصاد. وإنّه بينما يتمّ التقدّم بشكل جيد في العمل على قانون إعادة هيكلة البنوك المعدّل، فإنّه يجب أن يكتمل حتّى يمكن تقديمه مرّة أخرى إلى البرلمان. وإنّ التعديلات على قانون السرّيّة المصرفية، التي تهدف إلى معالجة النقائص، ومشروع قانون السيطرة على رأس المال وسحب الودائع، لا تزالان في انتظار موافقة البرلمان". فجرى الرّدّ عليه من قبل رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان. فكتب على منصة "اكس": " إلى كلّ الذين طالبونا وحمّلونا التأخير بإعادة هيكلة المصارف وموازنة عام 2023، وصولاً إلى نعي الاتفاق مع صندوق النّقد الدولي، نقول: صندوق النّقد الدولي في ختام زيارته يرفض مشروع الحكومة لموازنة 2023، ويطالبها بإحالة قانون إعادة هيكلة المصارف بنسخته النهائية إلى المجلس النيابي، ويشكر السلطات اللبنانية على صراحتها، يُفترَض موقفنا الصريح بموضوع الودائع، ويجدد جهوزيته لاستكمال التعاون مع لبنان".
خطوات في الاتجاه الصحيح
أمام هذا التخبّط وتقاذف المسؤوليات بين الحكومة والبرلمان رأى "الصندوق" أنّ "القرارات الأخيرة التي اتخذها الحاكمية الجديدة لمصرف لبنان للتخلّص تدريجيّاً من منصّة صيرفة، وإنشاء منصّة تداول عملات أجنبية مرموقة وشفّافة، ووقف استنزاف احتياطيات العملات الأجنبية، والحدّ من التمويل النقدي، وزيادة الشفافية المالية... هي خطوات في الاتّجاه الصحيح. وبناءً على هذا التقدّم، هناك الآن فرصة للإصلاحات الشاملة لتعزيز دور مصرف لبنان وتنفيذ عمليات تداول العملات الأجنبية وفقًا لأفضل الممارسات الدولية". وقد شدّد الصندوق على ضرورة "توحيد جميع أسعار الصّرف الرسميّة بسعر السوق، مما سيساعد في القضاء على فرص التحكّم في الأسعار والربح التي تثقل عبء الماليّة العامّة".
التحذيرات مستمرّة
وفد صندوق النقد الدولي وفي نهاية جولته كرّر تحذيراته السّابقة من أنّ عدم اتّخاذ الإصلاحات الضرورية بسرعة، سيرتدّ سلباً على الاقتصاد لسنوات طوال. فالافتقار إلى الإرادة السياسية لاتّخاذ القرارات الصّعبة، ولكن حاسمة، لإطلاق الإصلاحات، يترك لبنان في وضع ضعيف مع القطاع المصرفي وخدمات عامّة غير كافية، وبنية تحتيّة متدهورة، وتفاقم في ظروف الفقر والبطالة، وتوسيع أكبر لفجوة الدّخل". ففي نهاية المطاف "التضخّم ما زال في الأعداد ثلاثية الأرقام، ما يضغط بشكل إضافي على الدّخل الحقيقي، كما أنّ المؤشّرات النقدية والاقتصادية غير مطمئنة حيث "استمرّ انخفاض احتياطي العملات الأجنبية في النصف الأول من العام، بسبب تمويل مصرف لبنان لعمليّات شبه مالية. كما أنّ العجز الكبير في الميزان التجاري مستمرّ". وإذ علّق الصندوق على "إيجابية" تدفّق العملات الأجنبية خلال أشهر الصيف من السياحة، "رجّح أن لا تستمرّ، وهي تعطي في جميع الأحوال انطباعاً بأنّ الاقتصاد قد تجاوز أزمته ويؤدّي إلى الرضا. ومع ذلك، إنّ إيرادات السياحة والتحويلات النقدية لا تكفي لتعويض عجز ميزان المعاملات التجارية الكبير ونقص التمويل الخارجي. والمسار الحالي للتوازن الخارجي غير مستدام ويؤكّد على ضرورة اتّباع الإصلاحات".
ستتكرّر زيارات وفد صندوق النّقد الدولي إلى لبنان لتقييم الوضع وإعطاء النّصح، بغضّ النّظر إن تمّ التوصّل إلى اتفاق أو لم يتمّ، فهذا هو دوره في نهاية المطاف. وفي كلّ مرّة سيكرّر النغمة ذاتها، وسيسمع الأجوبة نفسها. ولن يغيّر الواقع ويُخرج البلد من المنطقة الرّمادية إلّا أمر من اثنين، إمّا انتهاج الإصلاحات أو وقوع البلد تحت العقوبات... غداً لناظره قريب.