شعب مستعد للتعايش مع كلّ جديد ولو كان في هذا التعايش ما قد يؤدّي إلى زوال الوطن والمؤسسات، وانحلال السلطة، وتفكّك الأجهزة والإدارات
هل كان من يتصوّر أنّ تلك الجماهير التي اجتاحت ساحات بيروت والمناطق للاحتجاج على فرض ضريبة 20 سنتاً أميركياً على الواتساب قبل 4 سنوات حين كان سعر صرف الدولار 1500 ليرة لبنانية، لم تكلّف خاطرها ولو بتظاهرة جماهيرية واحدة بعد أن تبخّرت ودائعها في المصارف وبعد أن بلغ سعر صرف الدولار ما يقارب المئة ألف ليرة لبنانية، ومع إقرار حكومة تصريف الأعمال موازنة العام 2024 التي يمكن وصفها بالضرائبية بامتياز.
"بكرا بيتعوّدوا" كما اعتادوا سابقاً على انقطاع التيار الكهربائي فتفتّقت عبقريّة المقتدرين والمحظيين منهم عن فكرة المولّدات الخاصّة والاشتراكات. لبنان الدولة الأغنى بالمياه العذبة في المنطقة، لا مياه شفة في منازلها، عمد الأهل إلى شراء مياه للشّرب وهي مياه تنتجها شركات مقتدرة. لا مياه للاستخدام المنزلي بفعل اهتراء البنية التحتية القديمة وعدم تجديدها، اعتمد اللبناني الذكي على شراء المياه من "صهريج ضومط ما غيره". كثيرة هي الأمثلة التي يمكن إيرادها عن سلوك فردي تحول إلى ظاهرة منتشرة ومتنقّلة من مكان إلى آخر. ويمكن التوقف عند إحداها والتي ظهرت أخيراً حين بدأ سعر الدولار بالارتفاع فانتشرت محال الصيرفة كالفطر بعد المطر ومن دون ترخيص، كما راجت ظاهرة شبّان يلوحون بمبالغ لبنانية ضخمة يحملونها وهم يقفون على جانب الطريق "صرافة عالماشي".
شعب مستعد للتعايش مع كلّ جديد ولو كان في هذا التعايش ما قد يؤدّي إلى زوال الوطن والمؤسسات، وانحلال السلطة، وتفكّك الأجهزة والإدارات. وإلّا فما معنى أن تقفل بعض المؤسسات أبوابها وتتوقف عن تسيير معاملات الناس، فلا شيء يحدث، لا ردّة فعل تذكر، تتوقّف النّافعة عن تسجيل السيارات، يقودون سياراتهم بعقود بيع، تتوقّف دوائر النفوس عن تسليم إخراجات القيد، فيلجأ المواطن إلى إخراج قيد قديم يصوره ويختمه ويستعمله لتلبية حاجة من هنا أو طلب فيزا من هناك.
يخطر لك للوهلة الأولى أنّ قدرة هذا الشعب على التأقلم تستحقّ الاحتفاء والتنويه بل والثناء أيضاً، ولكن مع الوقت أصبحت هذه القدرة على التكيّف سبباً للقبول بالأسوأ. يتعايش اللبناني اليوم مع وجود فراغ في سدّة الرئاسة الأولى، لم يعد يعير اهتماماً لإجراءات حكومة تصريف الأعمال ولا لقراراتها وما إذا كانت دستورية أم لا. لا يعنيه ما يجري في المجلس النيابي وعلى الأغلب خارجه حالياً على صعيد انتخاب رئيس جديد للبلاد. لا الشّعب ولا مسؤوليه يشعرون بالإحراج من التدخّل الخارجي وشروطه ولقاءاته التي ترسم مستقبل البلاد على مستوى الرئاسة والحكومة المقبلة، بل والدور والنّظام.
نفض يديه الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف – لودريان، وقال: "عدنا إلى نقطة الصفر". والصّفر يساوي "لا" نافية
كتب الصحافي جورج نقاش في 10 آذار 1949 في صحيفة الأوريان التي كانت تصدر باللغة الفرنسية في بيروت، مقالة بعنوان: "نفيان لا يصنعان أمّة"، وحتى اليوم لم يخرج اللبنانيون من لاءاتهم المتبادلة، تلك الـ"لا" النافية، كانت حاضرة دوماً في المشاريع الداخلية المرعيّة أو الموحى بها من الخارج، عسكرية كانت أم سياسية وحتى تنموية، وتأتي في لائحة طويلة من الأحداث التي يطول تعدادها قبل شرحها. يبقى أنّ أهمّ تلك "اللاءات" الـ"لام" التي نفت العماد ميشال عون إلى فرنسا وتلك التي أدخلت قائد القوات اللبنانية سمير جعجع إلى السجن. تلك الـ"لام" التي أنتجت اتفاق الطائف وما تلاه من استقرار أمني داخلي، نفتها "لا" اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وما بعد الاغتيال تعددت اللاءات وتضاربت حتى كادت تتلاشى فظنّ الجميع لوهلة أن هناك بوادر نِعَمٍ أرست نوعاً من الاستقرار في منطقة مضطربة. كانت "نعم" ظاهرة وخلفها "لا" مضمرة. تلك النعم التي سهّلت الكثير من المسائل التي انتهت بـ"لا" كبيرة في الشارع في 17 تشرين 2019، ولكنها سريعاً ما عادت صغيرة حتى ابتلعتها اللاءات التقليدية المعروفة. هذه اللاءات المتبادلة حاضرة على خلفية مرشح الثنائي الشيعي وحلفائه من جهة، ومرشح التقاطع كما اصطلح على تسميته من جهة ثانية. حتى دعوات الحوار الرئاسي تنطلق من خلف متراسين، ولا يوحي المتقابلون أنهم بوارد التراجع، كلٌّ عن اسم مرشّحه. نفض يديه الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف – لودريان، وقال: "عدنا إلى نقطة الصفر". والصّفر يساوي "لا" نافية.
عادت السعودية إلى صدارة المشهد وبقوة مع صورة النواب السُنّة في البرلمان أو أغلبهم بحضور مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان ولودريان. وكلّ ما قيل عن عدم ممانعة سعودية لوصول سليمان فرنجية إلى سدّة الرئاسة والحديث عن حوار بالواسطة مع حزب الله، والتعهّدات الأميركية بتسهيل انتخاب فرنجية مقابل ترسيم الحدود البحرية، كلّها اجتهادات وتحليلات وتسريبات ذهبت أدراج الرّياح.
قطر لم تُغادر المشهد، تحمل منذ مدة لواء ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون وما تزال، يحضر اسمها ويتمّ تحميلها مسؤولية أمور شتّى تحصل هنا وهناك، يُحكى عن جولات لموفدين قطريين وزيارات لمسؤولين لبنانيين إلى العاصمة القطرية الدوحة، ويستمر اسم العماد عون (بصيغته الجديدة) مطروحا كرئيس بانتظار حل ما لمسألة التعديل الدستوري أو أنّ الرئاسة ستنتظر إلى ما بعد موعد تقاعد هذا الأخير من منصبه مطلع العام المقبل.
وفي هذه الأثناء تحلُّ الـ"نعم" الحوارية، يقول البعض إنَّ رئيس البرلمان نبيه برّي أراد من خلالها شقّ صفّ المعارضة بين مؤيد للدعوة ورافض لها، أكثر من كونها دعوة للتلاقي والتباحث في الشأن الرئاسي، طالما أنها تنطلق من قاعدة معسكرين ومرشحين، وصاحب الدعوة يُعلن أنه لن يتخلّى عن مرشّحه، فهل ينتظر تخلّي الطرف الآخر والتسليم بخيار فرنجية هكذا وبكلّ بساطة؟ المؤيدون للدعوة يرون فيها فرصة أو نافذة يمكن من خلالها الولوج إلى لحظة الاقتراع ولو وفق معسكرين، على أن تكون الغَلَبة لمن يحصد أكثرية الأصوات. فهل سنكون فعلاً أمام هكذا سيناريو؟
يبقى حوار وحيد عابر للاصطفافات المستجدة وهو الحوار الدائر بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ، حوار "نعم" يرى فيه البعض نقيض تلك الـ"لا النّافية" على أمل أن تترجم بإيجابيات ونتائج. إلّا أنّ نتائج هذا الحوار ووفق مصادر الطرفين لا يمكن ترجمتها عمليّاً إلّا بتوافق مع الأطراف الأخرى المكوّنة للمجلس النيابي. ما يعني أنّها نعم مرهونة بتلك اللاءات المتقابلة في المجلس النيابي.
وبالعودة إلى مقولة "بكرا بيتعوّدوا" كان لافتاً ما قاله أحدهم تعليقاً عند سماعه باسم منصة "بلومبيرغ" يتردّد في الشارع اللبناني، إذ قال: أنا معوَّد عـ "نيتفليكس".