في الأوّل من أيلول من كلّ عام يتحضّر أهل الأرياف والقرى تحديداً، لتجهيز "مونة" الشتاء، معلنين الانتقال رسميّاً من موسم الصّيف إلى الخريف. حيث تعتبر المونة من أقدم العادات والتقاليد التي يتوارثها الأجيال، ومن أساسيّات أيّ بيت لبناني. من الكشك، إلى اللبنة المكعزلة (لبنة الماعز أو البقر)، فالمكدوس وربّ البندورة، وخلّ التفاح والدّبس والمربيّات على أنواعها إلى ما هنالك. مروراً بجميع أنواع الحبوب من برغل وعدس وأرزّ فطحين. وصولاً إلى اللحمة المطبوخة على شكل "قورما"... تفوح المنازل اللبنانيّة بأذكى وأطيب الروائح، التي تطبع هويّة المكان حيث لكلّ نوع مونة "خبرائه". فالزعتر البلدي والبرغل والفريك وُجِدوا لأهل الجنوب، فيما أهل البقاع ملوك اللبنة المكعزلة بزيت الزيتون والكشك الأخضر واليابس، أمّا أهل الشمال فتخصّصوا بجميع أنواع المربيّات التي تدهشك بطعماتها وألوانها، ليحتلّ أهل منطقتي راشيا وحاصبيا الصدارة بالدّبس، والتين والعنب المجفّف. أمّا المكدوس فله "ذوّاقه"، ومنهم من يفضّله حارّاً، فيما قسم آخر يفضّل المحافظة على الطعمة الأصليّة. وطبعًا اللائحة لا تختتم من دون الكبيس على أنواعه (خيار، مقتي، جزر، زيتون أسود وأخضر...).

غلاء المعيشة يطال موسم المونة

إلّا أنّ لموسم المونة هذا العام طعمٌ آخر، طيب الطعم لا يلغي التعب والجهد الكبيرين، وتكاليف أكبر تتكبّدها العائلات اللبنانيّة التي إن عمدت إلى تصنيع مونتها في منزلها أو على شرائها جاهزة، ستلحقها ضريبة ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة لا محال، فعلى الحالتين "مخسّرة معهم". حيث طال غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الغذائيّة موسم المونة أيضاً، ليرفع بدوره كلفة التصنيع. وبات اهل القرى البعيدة عن العاصفة يتابعون أخبار سعر صرف الدولار ويحدثونك عن الأسعار بين ليرة ودولار ولن يكون مستبعداً أن تراهم قريباً يتابعون "بلومبيرغ" كما كانوا يتابعون مجموعات سعر الصرف على الواتساب.

واقع الكلفة والأسعار تَشرحه في حديثها لموقع "الصفا نيوز"، السيدة لور عطالله وهي ربّة منزل مشهورة بعملها، وتشير إلى أنّ "صناعة المونة، لا تنحصر بالمواد الأوّليّة من الخضار والفاكهة واللحم والحبوب والسكّر أو الملح، والخلّ أو زيت الزيتون... والتي أصبحت أسعارها نار، بل تتعدّاها لتشمل تكلفة مراطبين الزجاج، والتي يبلغ سعر الواحد منها أقلّه دولار أميركي، والحطب للموائد أو الغاز، حيث يقارب سعر القارورة الواحدة المليون ليرة وهو بارتفاع مستمرّ، ففاتورة كهرباء الدّولة والمولّدات. ما صعّب علينا عمليّة تجهيز مونَتنا بالكميّات التي اعتدنا عليها في السنوات السابقة. حيث كنت أصنّع كمّيّات كبيرة، فأوزّعها على بناتي المتزوجات، وأولادي. أمّا هذا العام، فأنجأ قوم بمونتي (بالعامّية)".


جود بالموجود

بدورها تقول زينب أسعد في حديثها لـ"الصفا نيوز"، استبدلت هذا العام زيت الزيتون بزيت القلي، فهو أرخص، حيث أنّ تنكة زيت الزيتون تبدأ من مئة دولار أميركي، ولا شكّ بأنّ ذلك سيؤثّر على طعمة المكدوس واللبنة إلّا أنّنا علينا أن "نجود بالموجود". وكذلك لم أستخدم الجوز واللوز والمطيّبات في مونتي هذه السنة، فحبّة الجوز الواحدة غير المقشّرة تباع بـ5000 ليرة! أمّا الـ200 غرام من اللوز المقشّر فتباع بـثلاثة دولارات. كما أنني استغنيت عن الكبيس والمربّيات، والقوارما، وأبقيت على الأساسيّات في مونتي، كربّ البندورة والكشك".

في السياق نفسه، تشرح رولا عيتاني أنّ "كلفة تصنيع اللبنة المكعزلة والجبنة المكبوسة، أصبحت مرتفعة جدًا، حيث يبدأ سعر كيلو حليب المعزة من 75 ألف ليرة ويصل إلى 100 ألف ليرة، فيما نحتاج إلى 5 كيلو حليب لتصنيع كيلو جبنة، أيّ إلى 500 ألف ليرة لكل ّقالب جبنة. أمّا كيلو اللبنة المكعزلة فيتحتاج إلى قرابة الـ6 كيلو حليب. وهذه التكلفة لمن يربّي بنفسه مواشي، أمّا في المعامل فيباع كيلو الحليب بـ1500 ألف ليرة، ما يعني أنّ كلفة تصنيع كيلو جبنة من حليب المعمل تصل إلى 7 ملايين و500 ألف ليرة، فيما كيلو اللبنة فيكلّف 9 ملايين ليرة وذلك دون احتساب تكاليف الحطب أو الغاز".

الأسعار نار

وفي جولة لموقع "الصفا نيوز" على أسعار الخضار والفواكه والحبوب واللحم يتبيّن أنّ:

    - سعر كيلو البندورة يبدأ من 140 ألف ليرة                      - سعر كيلو الخيار يبدأ من 125 ألف ليرة

    - سعر كيلو المقتي يبدأ من 120 ألف ليرة                        - سعر كيلو الجزر يبدأ من 130 ألف ليرة

    - سعر كيلو الباذنجان يبدأ من 100 ألف ليرة                     - سعر كيلو اللوبية يبدأ من 120 ألف ليرة

    - سعر كيلو البازيلا يبدأ من 130 ألف ليرة                       - سعر كيلو البرغل يبدأ من 100 ألف يرة

    - سعر كيلو الفاصوليا العريضة يبدأ من 140 ألف ليرة          - سعر كيس الطحين مليونين و500 ألف ليرة

    - سعر كيس البصل ابتداءا من 60 ألف ليرة                      - سعر كيلو البرغل ابتداءا من 150 ألف ليرة

    - سعر كيلو العدس ابتداءا من 125 ألف ليرة                     - سعر كيلو الحمّص ابتداءا من 130 ألف ليرة

    - سعر كيلو الأرزّ ابتداءا من 80 ألف ليرة                        - سعر كيلو لحمة القاورما يبدأ من 12$

    - سعر كيلو الملوخيّة اليابس ابتداءا من 20$                      - كيلو الصنوبر ابتداءا من 50$

وفي حسبة بسيطة يتبيّن لنا أنّ كلفة تحضير المونة لعائلة مؤلّفة من 4 أشخاص، وبتشكيلة تتضمّن الأساسيات كافّة من حبوب  وربّ  ومرّبيات وألبان وأجبان، فكبيس على أنواعه، تتراوح بين الـ1000$ والـ2000$. فيما الحدّ الأدنى للأجور لا يزال 9 ملايين ليرة أيّ 100$ على سعر صرف 90 ألف ليرة للدولار الواحد!

حركة ناشطة لمعارض المونة

عل المقلب الآخر تنشط حركة معارض المونة في معظم المناطق اللبنانية، وهي خطوة تشجيعيّة للصناعات اللبنانيّة، يشرف عليها رؤساء بلديّات المناطق. وفي هذا الإطار كان لموقع "الصفا نيوز" حديث مع رئيس بلديّة عين زبدة في البقاع الغربي شربل نهرا، الذي لفت إلى "أنّنا نظّمنا هذا العام معرضًا للمونة بعنوان "يوم المزارع" بتمويل ودعم من جمعيّة JIZ الألمانيّة، وبالتعاون مع محمية أرز الشوف. وقد تمركز المعرض على الطريق العام في محاولة لاستقطاب العدد الأكبر من الناس، وكنّا قد أرسلنا دعوات إلى سكّان مناطق البقاع وزحلة وبيروت لتعريفهم على منتجاتنا، هذا وقد جذبت المنتجات السوّاح الأجانب أيضا. فيما العارضين جاؤوا من مناطق مختلفة، ولم يُحصر المعرض بأهل بلدة عين زبدة فقط، بل شمل أيضًا أشخاصاً من بلدات مشغرة وخربة قنافار وصغبين وكفريا".

وعن نسبة الإقبال أكّد نهرا أنّ "المنتجين باعوا بنسبة مقبولة، مقارنة بوقت المعرض وهو 4 ساعات فقط. وقد لاحظنا إقبالاً على الصناعات الوطنيّة المنزليّة الصنع، حيث أنّ الناس وبعد أزمة الـعام 2019، فقدت الثقة بالمنتجات التي تباع في الأسواق، وأصبحت تفضّل اللجوء إلى المنتجات البلديّة".

وأشار إلى أنّ "أسعار المونة أصبحت بالدولار، وذلك تماشيا مع الوضع الإقتصادي، وعلى الرّغم من أنّها لا تعدّ أسعاراً تنافسيّة، إلّا أنّ مما لا شكّ فيه أنّها تفوق المنتجات المصنّعة في المعامل، جودة وكميّة ونوعيّة".


وعن المشاكل التي يواجهها مصنّعو المونة يقول نهرا "المشكلة الأولى هي كلفة التصنيع العالية من موادّ أوّليّة وغيرها من التكاليف التي يتكبّدها المزارع أو ربّات المنازل. أمّا المشكلة الثانية فهي في تصريف الانتاج، حيث يتطلّب ذلك رخصة بيع مسجّلة في غرفة التجارة والصناعة، أي أن يكون للفرد مؤسسة، بالإضافة إلى مسألة التسويق والترويج للمنتج وبناء هويّته التجاريّة (Branding) وهو ما نعمل عليه مع عدد من الجمعيّات التي تحاول إرشاد وتوجيه سيدات المنازل في هذا الإطار، كما هناك قسم من الجمعيّات يعمل على تزويد "ستّات البيوت" بالموادّ الأوّليّة لتصنيع المونة، كالسكر وغيره، ما يخّفض تكلفة الإنتاج. هذا وتجري الجمعيات فحوصات مخبريّة للمنتج للتأكّد من أنّه يتطابق مع شروط السلامة العامّة ".

ويشدّد نهرا على أنّ "المونة أصبحت عائداً مادّياً يرتكز عليه سكّان القرى، فهذا المجال أمّن فرص عمل للعديد من الناس، وحدّ من نسب النزوح إلى المدن".

إذن وعلى الرّغم من الصّعوبات التي يواجهها أهل القرى في تصنيع مونتهم، وجد بعضهم بالمونة فرصة لخلق مشاريع تعود عليهم بالأرباح، في محاولة للصّمود في عاصفة الإنهيار الإقتصادي.