المؤشّرات على اقتراب تحرير الصّرف برزت مع "إحلال منصة "بلومبيرغ" مكان صيرفة، حيث يخطّط لبنان للتحوّل من سعر الصّرف الثابت إلى التعويم المدار، مع القدرة على التدخّل إذا لزم الأمر
تحفل المواقف السياسية العامّة بالعناوين الإصلاحية الدقيقة التي طال انتظارها. فعقب إقرار مجلس الوزراء مشروع قانون موازنة 2024 بعد ظهر أمس، تعهّد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي باستتباعها بجملة من مشاريع القوانين المكمّلة. وستُشكّل للغاية لجان مختصّة تعمل على وضع أسس إعادة هيكلة القطاع العام، وإصلاح الجمارك، وضبط التهرّب الضريبي، وإقرار ضريبة الدّخل الموحّدة... وغيرها العديد من القرارات الضرورية لاستكمال المواضيع الإصلاحية اللازمة.
طرب الأذن لسماع هذه النغمة المألوفة، يقابله تسارع في دقّات قلوب المواطنين من أن تكون الإصلاحات مجرّد "شمّاعة" لتمرير القرارات الإشكالية. ومن هذه القرارات يبرز بشكل أساسي تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية. وبتعليق له على منصة "X"، كتب النائب بلال عبدالله: "يبدو أنّ القرار اتخذ بتحرير سعر الصّرف بدون إعلان ذلك صراحة. لا يهمّ ما إذا كانت الخطوة داخلية، أم هي شرط من شروط صندوق النقد. المهمّ، ما هي مفاعيل هذا القرار على حياة اللبنانيين؟ وما تبقّى من أمنهم الاجتماعي والصحّي والتربوي. في ظلّ هذا الانسداد السياسي، أعتقد نحن أمام كارثة قادمة".
الانطلاقة ستكون من بلومبيرغ
المؤشّرات على اقتراب تحرير الصّرف برزت مع "إحلال منصة "بلومبيرغ" مكان صيرفة، حيث يخطّط لبنان للتحوّل من سعر الصّرف الثابت إلى التعويم المدار، مع القدرة على التدخّل إذا لزم الأمر، بحلول نهاية أيلول،"، بحسب ما كتبت محلّلة البحوث في بنك لبنان والمهجر للأعمال على مدوّنة البنك، ألين قزي. "وأثناء القيام بذلك، يخطّط البنك المركزي لمواصلة شراء الدولار الأميركي في السوق لتجنّب استنزاف الاحتياطيات لدعم الليرة. ومع ذلك، لا يزال من غير المؤكّد أن تضمن العوامل الاقتصادية والنقدية استمرار استقرار سعر الصّرف".
الانتقال إلى سعر الصرف المعوّم لم يعد موضوعاً اختيارياً بالنّسبة للبنان. فمع تراجع احتياطيات العملات الأجنبية في المركزي، واستنفاد أموال المودعين، أصبح من المستحيل الاستمرار بدعم الليرة
تداعيات التّحرير
الانتقال إلى سعر الصرف المعوّم لم يعد موضوعاً اختيارياً بالنّسبة للبنان. فمع تراجع احتياطيات العملات الأجنبية في المركزي، واستنفاد أموال المودعين، أصبح من المستحيل الاستمرار بدعم الليرة. هذا عدا عن المساوئ التي تَنتج عن تثبيت سعر الصّرف بطريقة اصطناعية، وانعكاساتها السّلبية على القطاعات الانتاجية، وتراكم العجز في الحساب الجاري و"تهشيل" الاستثمارات الأجنبية. "إلّا أنّه على عكس الدّول النامية التي تحرّر عملتها بالفترات التي تشهد فيها نموّاً اقتصادياً، سيحرّر لبنان عملته في فترة الرّكود. وهو الأمر الذي يثير خشيتنا كخبراء ماليين من تفاقم الاوضاع سلباً"، يقول الرئيس التنفيذي لشركة Advisory and Business Company علاء غانم. فتحرير سعر الصّرف في الاقتصاديات النّامية التي تكون عملتها غير ثابتة مقابل الدولار أو العملات الأخرى، عادة ما يكون مترافقاً مع توفر عنصرين:
- معدلات تضخّم مرتفعة تتراوح بين 10 و12 في المئة سنويا.
- تحقيق معدّلات نموّ كبيرة.
وهذا ما جرى تحديداً في مصر وتركيا واندونيسيا والبرازيل... وغيرها من الدول. ولكن على الرغم من توفر عناصر تحرير سعر الصّرف، فإنّ المصارف المركزية عجزت عن السيطرة على انخفاض قيمة عملتها مقابل العملات الأجنبية. ففي مصر على سبيل المثال بدأ سعر صرف الجنيه بالانخفاض مع بدء ثورة الرّبيع العربي. فتراجع مقابل الدولار من 4.8 جنيه إلى 6 جنيه وصولاً إلى 9.8 جنيه. "ما حدا بالمصرف المركزي المصري أخذ القرار بتحرير سعر الصّرف، مع التوقّع أن يصل بحدّه الأقصى إلى 16 جنيه"، يقول غانم. "لكنّ سعر الصّرف وصل إلى 24 جنيه. أي بزيادة 50 في المئة عن المعدّل المتوقّع. وعليه تثبت التجربة أنّه عندما يتمّ تحرير أي عملة بشكل نهائي فإنّ حالة الهلع التي تسيطر على الأسواق تأخذ مداها الأقصى لفترة تتراوح بين 6 و8 أشهر، نشهد فيها تفلّتات كبيرة في سعر الصّرف". وهنا السؤال هل يستطيع البنك المركزي اللبناني التصدّي لحالة الهلع هذه مع المضاربات التي ترافقها؟ هل أخذ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري أيّ وعد من الدّول العربية أثناء مشاركته في اجتماع المصارف العربية في الرياض بوضع وديعة في المركزي؟ وهل الوديعة بـ 500 أو مليار أو حتّى ملياري دولار تسمح بالتصدّي لمثل هذا الواقع، وضمان عدم تفلّت سعر الصّرف بمجرّد أخذ القرار بالتحرير النّهائي؟
الإصلاحات أوّلاً
أسئلة لا جواب شاف عليها لغاية الآن. ومعظم التوقّعات تشير إلى أنّه من دون مبالغ مالية كبيرة في المركزي تتيح له التدخّل في سوق القطع، ومن دون تنفيذ الإصلاحات الضرورية، فإنّ لا أحد يضمن عدم تفلّت سعر الصّرف، ووصوله إلى أرقام خيالية. ومن الإصلاحات المطلوب تحقيقها قبل أيّ عمليّة تحرير لسعر الصّرف يبرز بحسب الباحثة الاقتصادية والمستشارة المالية مارغريتا الشامي مجموعة نقاط أبرزها:
- ضبط الموازنة العامّة.
- تخفيض نسبة العجز في ميزان المدفوعات. أو حتّى القضاء عليها.
- كمّية الاحتياطيات بالعملات الأجنبية الموجودة في مصرف لبنان.
لكن مقابل هذه الشروط فإنّ موازنتي العام 2023 و2024 أقرّتا في مجلس الوزراء بعجز من الناحية النظرية، وقد يكون كبيراً جداً على أرض الواقع. خصوصاً بالنّظر إلى كميّة الواردات الحقيقية التي تحقّقها الدّولة، والتي يجب أن تظهر في قطع الحساب المعلّق إصداره. وعليه يجب بحسب الشامي "تخفيض عجز الموازنات بشكل كبير من خلال الجباية، وعدم اللجوء إلى مصرف لبنان من أجل طبع الليرة لتمويل النفقات. نظراً لما تسببه هذه الآلية من انهيار في سعر الصرف وتضخم". كما يجب أن يستبق تحرير سعر الصّرف، برأي الشامي بـ: "القضاء على هجمات المضاربين على العملة، وسدّ العجز بميزان المدفوعات وتحديداً في الشقّ المتعلّق بالميزان التجاري. وتأمين الاستقرار السياسي لجذب رؤوس الاموال الأجنبية التي تؤثّر إيجاباً على سعر الصرف. واعتماد توازن مالي وإصلاحات ونمو اقتصادي".
نظريّاً
يفترض منطق الأمور أن ينشّط تحرير سعر الصّرف تدفّقات العملة الصعبة الناتجة عن زيادة الإيرادات. فتحرير سعر الصّرف يعني تراجع أسعار المنتجات الوطنية، وبالتاّلي زيادة قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. لكن في لبنان الوضع مختلف، فتحرير سعر الصّرف لن يخفّض كلفة الإنتاج التي تتكوّن بشكل أساسي من الطّاقة، وسيطرة الاقتصاد الأسود، والرسوم المرتفعة والفساد. كما أنّ عائدات الصّادرات لا تدخل الاقتصاد بسبب انهيار القطاع المصرفي. وعليه من غير المتوقّع أن ينعكس تحرير سعر الصّرف إيجابا على القطاعات الإنتاجية. وبحسب غانم فإنّه يمكن تقسيم الاقتصاد على الشّكل التالي:
- اقتصاد الخدمات الذي ينشط في مواسم محدّدة.
- اقتصاد القطاع الخاص الذي يقدّم منتجات؛ عادت أسعارها لتصبح أعلى من مثيلاتها المستوردة.
لعلّ أحسن وصف للوضع الراهن في لبنان يمكن اختصاره بالمثل القائل "أسمع أقوالك تعجبني، أشوف أفعالك أتعجّب". فبغضّ النظر عن الوعود، يبقى التطبيق الفعلي والجدّي والبعيد عن المحسوبيات هو المعيار. ذلك أنّ تحرير سعر الصّرف من دون الإصلاحات الجديّة يعني إرهاق المواطنين، بهدف زيادة إيرادات الدّولة من دون إعطاء أيّ حوافز للاقتصاد.