للمرّة الثانية في أقلّ من نصف عام يعود وفد صندوق النقد الدولي برئاسة إرنستو راميريز ريغو إلى لبنان، للسؤال عمّا تحقق من الاتفاق على مستوى الخبراء الموقّع مع الحكومة اللبنانية في نيسان 2022.
يجيء وفد صندوق النّقد الدوليّ إلى لبنان، ويروح وفد صندوق النّقد، والإصلاحات تراوح مكانها. وكما "جفّ ريق" المبعوث الفرنسي بيار دوكان وهو يسأل منذ العام 2018 عن تطبيق شروط مؤتمر "سيدر" الإصلاحية، من أجل تقديم المساعدات، "سيذوب نعل" صندوق النقد من القدوم إلى بلاد الأرز، والعودة من دون تلمّس أيّ نتيجة.
للمرّة الثانية في أقلّ من نصف عام يعود وفد صندوق النقد الدولي برئاسة إرنستو راميريز ريغو إلى لبنان، للسؤال عمّا تحقق من الاتفاق على مستوى الخبراء الموقّع مع الحكومة اللبنانية في نيسان 2022. "أقلّ الإيمان" أن يرى "الصندوق" إنجازاً واحداً. خصوصاً بعدما قرع جرس الإنذار في آذار الفائت، معلناً في بيان رسمي أنّ "لبنان يقف عند مفترق طرق خطير، وبدون الإصلاحات السريعة، سيغرق في أزمة لا نهاية لها". وما قصده الصندوق وقتذاك بالإجراءات السريعة، هي مجموعة خطوات كان يجب على لبنان اتّخاذها قبل نهاية العام 2019، وتتعلق بـ: فرض "كابيتال كونترول". وإعادة هيكلة المصارف. والبدء بإجراءات جدّيّة لإصلاح القطاع العام ومؤسساته، ولاسيما قطاع الطاقة. الاتّفاق مع الدائنين على آلية تسديد الديون. ومكافحة الفساد ووضع حدّ لتبييض الأموال. وإقرار موازنة العام 2022.
على نقيض الاصلاحات
المشكلة الأعظم أنّ السلطة لم تهمل تطبيق هذه الإصلاحات فحسب، بل فعلت عكسها تماماً. فقد حفلت الأشهر الثمانية عشر التي أعقبت توقيع الاتّفاق باستمرار "تهريب" الدولارات من الودائع إلى الخارج، ما عمّق حرمان أكثرية المودعين من العدالة في توزيع المتبقي من ودائع. وأنشأت منصّة صيرفة بهدف تأمين الاستقرار النقدي، فتحوّلت إلى أداة لتبييض الأموال. وزادت النفقات بالموازنات بشكل هائل من أجل تمويل قطاع عام كبير ومترهّل، قبل تنفيذ أيّ إصلاح. ودفعت نصف الاقتصاد إلى العمل بـ "الأسود" نتيجة العجز عن ضبط الحدود ووقف التهرّب والتهريب الضريبي. وضمّنت الموازنات مواداً تعفي المتهرّبين ضريبياً، والمشكوك بمصادر أموالهم من المحاسبة والملاحقة، وذلك على غرار المادة 22 من مشروع قانون موازنة 2023 (أبطلها مجلس الوزراء في جلسة الامس). واقتصرت الإصلاحات في قطاع الطّاقة على رفع التّعرفة من دون زيادة التغذية وإنشاء الهيئة النّاظمة للقطاع، وهي المطلب الأساسي لكلّ الجهات الدوليّة.
المشكلة الأعظم أنّ السلطة لم تهمل تطبيق هذه الإصلاحات فحسب، بل فعلت عكسها تماماً
المجاهرة برفض شطب الودائع
اللافت في الزيارة التفقّدية الحاليّة، كان مجاهرة المسؤولين اللبنانيين الـذين التقاهم وفد "الصندوق"، برفض مطلب شطب الديون في مصرف لبنان. فالاعتراض على هذا البند الذي ظلّ مخبّأ طويلاً بـ "خيال أصبع" حماية المودعين كلّ المودعين، أصبح جهاراً. وغنيّ عن القول إنّه من دون ردم الفجوة النّقدية في مصرف لبنان، المقدّرة قيمتها بـ 72 مليار دولار أقلّه، من خلال إعادة رسملة المركزي بـ 2.5 مليار دولار وإلغاء بقية الالتزامات، فإنّ صندوق النقد الدولي لن يوافق على مساعدة لبنان. فهو يعتبر أنّ إعادة ودائع المصارف التجاريّة في مصرف لبنان شبه مستحيل. والإجراء سيكون على حساب قدرة لبنان على تأمين متطلّبات التنمية في المرحلة اللاحقة، وحقّ غير المودعين بالمال العام وتعريض الأجيال المستقبلية للخطر، وإرهاق الاقتصاد، وتقويض قدراته على الإيفاء بالتزاماته الجديدة. هذا عدا عن أنّ إرجاع أموال المودعين سيفاقم المشكلة مع الدائنين الأجانب، الذين يحملون ما لا يقلّ عن 37 مليار دولار من السندات مع الفوائد.
في المقابل فإنّ شطب الدّيون يعني ببساطة حرمان المودعين من حقوقهم، والقضاء على المصارف، وإفلاسها. وهو لا يتوافق بحسب المعترضين على هذا المطلب، مع المادة 113 من قانون النّقد والتسليف التي تنصّ على أن "الدولة ملزمة بتسديد خسائر مصرف لبنان". هذا من الناحية القانونية، أمّا من الناحية المنطقية، فيذهب المعارضون أبعد من ذلك، معتبرين أنّ الخسائر نتجت بشكل أساسي عن تثبيت سعر الصرف منذ العام 1998، الذي استفاد منه كلّ اللبنانيين تحسّناً في قدرتهم الشرائية، ومكّنهم من شراء المنازل والسيارات والاستجمام في الخارج... وغيرها الكثير من مظاهر الإنفاق. وعليه فإنّ الخسائر يجب أن توزّع على الجميع، وأن لا تنحصر فقط بالمودعين.
إهمال الإصلاحات، مقصود
بين وجهتي النظر المتناقضتين، ما زالت السلطات اللبنانية لم تنفّذ حتّى الآن أيّاً من بنود الاتّفاق الأولي مع صندوق النقد. "وهذا الأمر ليس بمستغرب"، برأي وزير الدولة السابق لشؤون تكنولوجيا المعلومات، والخبير في اقتصاد الدّول الناشئةً والأسواق المالية العالمية عادل أفيوني. "إذ أنّ نمط النكران والتأجيل وتعطيل أيّ إصلاح، أو أيّ حلّ انقاذي، هو النّمط السائد في إدارة الأزمة منذ سنوات، ولم يتغيّر". وبرأي أفيوني فإنّ "القوى الحاكمة تلجأ إلى حجج واهية لتبرير هذا التقاعس، ومنها: الفراغ الرئاسي، وتعطيل الجلسات الحكومية، وتصريف الأعمال". لكن المؤكّد أنّه "لا نيّة جدّية لديها لاتّخاذ القرارات الجريئة المطلوبة. لأنّ أيّ إصلاح وأيّ اتفاق مع صندوق النقد، يضرّ بمصالح الطبقة الحاكمة، ويقلّص نفوذها، ويحدّ من قدرتها على السيطرة على مرافق الدّولة وعلى الاقتصاد والاستفادة منها".
نفاد صبر الصندوق
أمام هذا الكمّ من الاستعصاء على الإصلاح "تعوم" على وجه الواقع مجموعة من الأسئلة تتعلّق بموقف صندوق النّقد الدوليّ من لبنان، وإن كان من إمكانية لتليين شروطه، ومدّه بالمزيد من المهل لتحقيق المطالب.
يجيب أفيوني أنّه "مما لا شكّ فيه، أنّ صبر صندوق النقد قد نفد من لبنان، وهو لم يعد لديه أيّ ثقة بمصداقية المفاوض اللبناني أو نواياه منذ أربع سنوات إلى اليوم. ومن غير المتوقّع أن يكون هناك استعداد لإعادة التفاوض، أو التساهل أو إجراء أيّ تعديل في الإصلاحات المطلوبة من الدّولة اللبنانية. فهذه الشّروط بديهية لأيّ عمليّة إنقاذ. إذ من غير المعقول بعد أربع سنوات من الانهيار، أنّنا لا نزال بدون قانون كابيتال كونترول، وبدون إصلاحات ضريبية، وبدون إعادة هيكلة المصارف وبدون خطّة لإنقاذ الودائع وبدون إعادة هيكلة الدّين العام... نادراً ما شهدنا مثل هذا التقاعس في أزمات مالية بهذا القدر من الخطورة". ومن الجدير بالذكر بحسب أفيوني هو أنّ "العديد من الدول التي مرّت بأزمات ماليّة في السّنوات الأخيرة، والتي أعقبت الأزمة في لبنان، مثل سريلانكا وباكستان.. قد سبقت لبنان بأشواط، وباشرت برنامج دعم مع صندوق النّقد. بينما السّلطات اللبنانية لا تزال عندنا تمعن في النّكران والتأجيل والمماطلة".
"الخرطوشة" الأخيرة
يتأمّل كثر أن تشكّل العقوبات الدولية، المهدّد بها لبنان ككيان، محفّزاً على الاصلاح. ولاسيّما في ما يتعلّق بإمكانية إدراجه على اللائحة الرمادية لـ "مجموعة العمل المالي"، في حال عدم تقيّده بإجراءات مكافحة تبييض الأموال. فـ "المجتمع الدّولي، والدّول الصديقة، نفد صبرها، أيضاً، من السّلطات اللبنانية"، من وجهة نظر أفيوني. "ولم يعد لديها أيّ ثقة بقدرة السّلطة، ونواياها على تنفيذ الإصلاحات. وهذه الضغوط لا شكّ أنّها ستزداد مع تفاقم الوضع في لبنان، وتفشّي وانكشاف المزيد من قضايا الفساد، وسوء استخدام النّفوذ لدى الطبقة الحاكمة وزبائنها، على حساب الشعب اللبناني والدولة والمؤسّسات".
لو لم يضرب المثل "تيتي تيتي مثل ما رحتي مثل ما جيتي"، بالدّودة التي أرادت أن تسمن فدخلت خرم الجوزة وأكلت حتى لم تعد تستطيع الخروج، فاضطرت أن تصوم، لتعود كما كانت، لكان المثل ضُرب بعلاقة الموفدين مع لبنان. يجيئون محمّلين بالمساعدات المشروطة، فيعلقوا في "صندوق" المصالح، المبتلع مفتاحه من السلطة، تتناقص تقديماتهم... ويعودوا كما وصلوا.