بالنّظر إلى الخارطة الجيوسياسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط والإصطفافات الدولية، نرى أنّ هناك مسار دولي للمنّطقة بدأ يتكرّس إن سياسياً أو إقتصادياً
خلال أكثر من عقدين كان للبنان حرّيّة سياساته الإقتصادية والمالية والنقدية ولو من خلال نصائح خارجية. هذا الأمر استمّر حتى بدء الأزمة حيث تُظهر المؤشّرات أنّ المسار الدّولي والصراع الجيو – إقتصادي والجيوسياسي بين الدول الكبرى، وعجز السلطات المحلّيّة عن القيام بإصلاحات، جعل الحلول الخارجية تتكرّس وبدأ تنفيذ هذه الحلول من دون لا حول ولا قوّة للسلطات المحلّيّة.
بالنّظر إلى الخارطة الجيوسياسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط والإصطفافات الدولية، نرى أنّ هناك مسار دولي للمنّطقة بدأ يتكرّس إن سياسياً أو إقتصادياً مع عزل روسيا ولجم نفوذها السياسي في المنطقة، وتطويق النّفوذ الإقتصادي الصيني (كردٍ على مشروع طريق الحرير) من خلال ما يُعرف بمشروع "الممرّ الكبير" والذي يصل بين الهند وأوروبا ويمرّ بعدد من الدول العربية وإسرائيل، مع إستثناء لبنان ودول أخرى تتأثر بالمحور الرّوسي – الصيني - الإيراني.
لبنان الذي كان يُعتبر بوّابة الخليج على البحر الأبيض المُتوسّط، فقد صفته هذه ومركزه المحوري وأصبح دوره الإقتصادي الإقليمي هامشيّاً. هكذا قرّرت الدول الكبرى وهذا ما يحصل حاليّاً بتنفيذ محلّي سواء كان عن قناعة أم لا.
ما نراه على صعيد تسلسل الأحداث وخصوصاً الإقتصادية – المالية – النقدية، يجعلنا نُرجّح فرضية وجود خطّة لتحديد مسار لبنان للعقود القادمة. فالأمور بدأت مع خطّة ماكنزي في العام 2018 والتي أعطت إطاراً محدوداً للإقتصاد اللبناني عبر تركيزها على نقاط لا تتماشى بالضرورة مع تحدّيات المنطقة الاقتصادية، ولا تجعل لبنان رقماً صعباً في المعادلة الإقتصادية الإقليمية. لتعود بعدها خطّة لازار التي تبنّاها صندوق النقد الدولي وأبصرت النور مع حكومة الرئيس حسان دياب، وترسم المسار المالي والنقدي والمصرفي للبنان. وتبلورت خطّة لازار بوضوحٍ أكبر مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حيث نصّت بشكلٍ واضحٍ على تسلسل الأمور إن على صعيد الإجراءات المالية أو المصرفية أو النقدية. وحديثاً إتخذ لبنان قراراً "كبيراً" بتحرير سعر صرف عملته وهو ما سيُغيّر وجه لبنان الإقتصادي لعقود قادمة.
لبنان الذي كان يُعتبر بوّابة الخليج على البحر الأبيض المُتوسّط، فقد صفته هذه ومركزه المحوري وأصبح دوره الإقتصادي الإقليمي هامشيّاً
لا نعتقد أنّ لبنان يواجه مرحلة خطرة مثل المرحلة الحالية الناتجة عن المسار الدولي الجديد، والذي بدأت تتكرّس ملامحه في الصراعات السياسية منذ العام 2017، وتمثّلت بتعطيل المؤسسات الدستورية الواحدة تلو الأخرى. وما يزيد الأمر صعوبة الإرتهان الخارجي والذي يجعل "ما كتب قد كُتب" من دون أيّ قدرة محلّيّة على تعديل كلمة واحدة ممّا كُتب.
عملياً وممّا يتضحّ من الأحداث والمؤشرات السياسية والإقتصادية، نرى أنّ لبنان قادم على تحرير سعر صرف عملته، وتنفيذ "حرفي" لخطّة لازار وخطّة ماكنزي، حتّى لو تطلّب الأمر سنين طويلة. وبدل أن يكون دور لبنان محوري في المنطقة بسبب موقعه الجغرافي وعروبته، سيكون لبنان دولة هامشية في المنطقة، من دون أي تأثير إقتصادي حقيقي مع التأكيد على ضرورة أن يكون هناك ثبات سياسي وأمني لضرورة تطبيق المسار الدولي الحالي الذي حظي بمباركة الدول المُجتمعة في قمّة العشرين. المعوقات التي قد تُوقف هذا المسار الدولي مُحدودة النطاق والقدرة. وحتّى لو استطاعت هذه المعوقات تجميد المسار لفترة، إلّا أنّ هناك خطط دولية جاهزة لمُعالجة هذه المعوقات حتّى ولو بالقوة.
لذا من الحكمة في ظلّ غياب قدرة السلطات اللبنانية على تغيير المسار الدولي، أن تعمد القوى السياسية إلى وقف الإستنزاف الحاصل على الصعيد الإقتصادي والمالي والنقدي، وأن تُعيد تكوين السّلطة التنفيذية بشقّيها رئاسة الجمهورية والحكومة، على أن تعمد هذه الأخيرة إلى استكمال التعيينات الإدارية والقضائية والمالية والنقدية والعسكرية، وتنكبّ على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها نظراً إلى خطورة الوضع الإجتماعي الذي وصل إليه لبنان وما قد ينتج من تداعيات أمنية قد لا يكون للبنان القدرة على السيطرة عليها، خصوصاً مع ما يحصل في المُخيّمات الفلسطينية وموجة النزوح السوري الجديدة، والتي تُقدّر من قبل بعض المسؤولين الأمنيين بأكثر من مليون نازح، ليرتفع عدد النازحين في لبنان إلى أكثر من ثلاثة ملايين نازح ستظهر سريعاً التداعيات السلبية لوجودهم في لبنان.
ويبقى السؤال: هل المسار المرسوم للبنان هو الأفضل؟ الجواب بالطبع لا. فقد كان يتوجّب على السياسيين في لبنان إعادة لبنان إلى موقعه الطبيعي – أي بوابة الخليج، ومستشفى الشرق الأوسط، والمركز التعليمي الأول، بالإضافة إلى مركزه المالي الذي كان يحظى به منذ ستينات القرن الماضي. أيضاً كان باستطاعة المسؤولين دعم الإقتصاد بجعل لبنان مركز تكنولوجي مُتطوّر عبر إعتماد منهجية "السيليكون فاليه" ومع إستخراج الغاز كان باستطاعة لبنان خلق قطاع بيتروكيماوي ضخم...
لكن وبعد ما حصل من هدر وفساد في المال العام قضى على أموال المودعين، والوصاية الدولية التي أصبحت قائمة بحكم فقدان الثقة بالسلطة السياسية والمالية، لم يعد لبنان قادراً على تحديد مساره، وبالتالي المطلوب اليوم إجراء الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي ومن ثمّ تنفيذ خطّة ماكنزي.
المُحزن المبكي في وضعنا هذا أنّ هناك شعارات يؤمن بها الرأي العام اللبناني ويدافع عنها على حساب كيانه ووجوده، على الرغم من أنّ هذه الشعارات هي شعارات فارغة ولا تمتّ إلى واقع الإنسان بصلة. وبالتّالي وعلى الرّغم من الطابع الديموقراطي للنّظام اللبناني الذي يضع القرار الأخير في يد الشعب، إلّا أنّ هذا الأخير – أسير الشعارات – يُعيد إنتاج سلطة خفّضت دخله الفردي السنوي من خمسة عشر ألف دولار أميركي إلى أقلّ من خمسة آلاف دولار أميركي سنوياً، مع فقدانه لكلّ المقوّمات الخدماتية التي تدخل ضمن حقوقه عملاً بشرعة حقوق الإنسان. لذا وفي ظلّ هذه المعضلة يأتي المخاض كممرّ إلزامي لتنفيذ المسار الدّولي على أمل أن لا يطول هذا المخاض، ونعبر إلى برّ الأمان الإجتماعي حتّى لو أصبحنا دولة هامشية.