فيما موازنة العام الحالي لاتزال معلّقة على حبال مجلس النواب، أرخت حكومة تصريف الأعمال حبل موازنة العام القادم على "جرّار" النّقاش تمهيداً للإقرار. موازنتان غير متوازنتين، أبدعت بهما السّلطة التنفيذية تحريفاً وتشويهاً لمبدأ وضع الموازنات بشكل عام، وللإصلاحات المطلوبة للخروج من الانهيار بشكل خاص. وكما " الفاخوري بيركّب دينة الجرّة وين ما بدّو"، بحسب المثل الشعبي البيروتي، تركّب السلطة التنفيذية بنود الموازنة كما تشتهي المنظومة التي تسببت بالانهيار، وتحيلها إلى مجلس النواب، بغضّ النظر إن كانت قابلة للإقرار.
بدأت الحكومة مناقشة بنود مشروع قانون موازنة 2024 نهاية الأسبوع الحالي، على أن تُخصص ابتداء من مطلع الأسبوع المقبل جلسات مكثّفة لإقرارها، وإحالتها إلى مجلس النوّاب ضمن المهل الدستورية. وذلك على الرّغم من عدم وصول موازنة العام الحالي إلى مجلس النواب.
تمييع الإصلاحات لمنع المحاسبة في موازنة 2023
لعلّ أخطر ما يحصل هو اعتبار أنّ إقرار مشروع موازنة العام 2023 أصبح تحصيلاً حاصلاً، ذلك على الرّغم من عدم مناقشتها بعد في لجنة المال والموازنة النيابية ووضع الملاحظات وإدخال التعديلات عليها، ورفعها إلى الهيئة العامّة للتصويت. وتحمل موازنة 2023 مواداً خطيرة، مناقضة للإصلاحات المطلوبة، ومنها تحديداً المادة 26. فهذه المادة التي نصّت بحسب المسودّة الأوّلية لوزارة المالية على التشدّد بتوسيع قاعدة المكلّفين الخاضعين لـ "اتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية، والمعروفة تقنياً بـ CRS، لاستيفاء المعلومات وزيادة الإيرادات المحقّقة من عوائد رؤوس أموال للبنانيين في الخارج، جرى نسفها. "واستبدلت هذه المادة بالنّسخة النهائية، بإعفاء كلّ إيرادات رؤوس الأموال المنقولة وكل المكلّفين لما قبل العام 2022، شرط أن يسددوا المتوجب عليهم للعام 2022"، يقول رئيس لجنة حقوق المودعين في نقابة المحامين المحامي كريم ضاهر. "ما يعني فعليّاً السماح بإعادة تنميق حسابات المكلّفين في الخارج منذ العام 2017 وإخفاء كل أدلّة الجرائم المالية المرتكبة تحت شعار "عفا الله عمّا مضى". في حين أنّه كان من شأن التشدّد بتطبيق هذه المادّة تحصيل عائدات مالية كبيرة، وكشف المخالفات الجسيمة. خصوصاً أنّ اتفاقية CRS الموقّع عليها لبنان، تضمن تصريح الدول الخارجية تلقائياً، أو غبّ الطلب، عن عائدات رؤوس الأموال المنقولة للبنانيين المقيمين في الخارج. أي عن كلّ الايرادات المتأتية من عوائد الأسهم والسندات وفوائد الحسابات المصرفية. وهي تكفل من الجهة الأخرى ملاحقة مصادر هذه الأموال، والتدقيق في بنيتها، وما إذا كانت ناتجة عن أعمال مشبوهة كالاختلاس وتبييض الأموال وعدم تسديد الضرائب عليها، وبالتّالي مصادرتها ومحاسبة المرتكبين. وهذه الطريقة كانت "الخرطوشة" الأخيرة لإيقاع الفاسدين، وسوقهم للعدالة.
تكريس الأخطاء في موازنة 2024
هذا في ما خصّ بموازنة 2023، أمّا في ما يتعلق بمشروع موازنة العام المقبل فإنّ الأمور ليست أفضل حالاً، فهذه الموازنة تكمل ما بدأته موازنة العام السّابق غير المقرّة، وتنصّ على أنّ الضريبة على الرواتب والأجور بالعملة الأجنبية تقتطع على أساس احتساب الدخل بالدولار يشكّل 40 في المئة من السعر المعتمد على منصّة صيرفة، وليس بحسب سعر الصرف الرسمي المعتمد حالياً 15 ألف ليرة"، يقول الخبير الضرائبي والعضو في المكتب التنفيذي لتجمّع رجال وسيدات أعمال لبنان الأستاذ نديم ا. ضاهر. "وقد تكون هذه الآلية تمهيدية، لفرض الضريبة بالدّولار بشكل كلّي".
وتتضمن موازنة 2024 شقيّن رئيسيين بحسب نديم ضاهر:
- الأول، وضع السّلطة الضريبة بالعملة الأجنبية حين أمكنها ذلك. ومن الأمثلة على ذلك: الرّسوم الجمركية والمصاريف المرافقة، والضريبة على إيرادات الأموال المنقولة من الخارج والضّريبة المسدّدة على دخل غير المقيمين الذين يقدّمون خدمات في لبنان.
- الثاني، تكبير إطار المواضع الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة، TVA، وزيادة رقم الأعمال الذي يخضع المكلّف بموجبه لهذه الضريبة. فالمبلغ الذي كان في السابق 100 مليون ليرة لبنانية، ارتفع مع هذه الموازنة إلى 5 مليار ليرة. كما جرى إخضاع منظّمي الأمسيات الفنية أو الحفلات للضريبة على القيمة المضافة، حتّى لو كانت الجهة غير خاضعة للضريبة على القيمة المضافة.
في الخلاصة فإنّ "الموازنات هي محض جداول تجميع للإيرادات من أجل تمويل قطاع عام بحاجة إلى الإصلاح وإعادة الهيكلة"، برأي نديم ضاهر. وهو ما يرهق الاقتصاد بشكل عام والأفراد والمؤسسات النظامية بشكل خاص.
الإدارة العامّة ترفض الموازنات وتستمرّ بالإضراب
في الموازاة يقول عضو الهيئة الإدارية في رابطة موظّفي الإدارة العامة إبراهيم نحّال إن موازنتي 2023 و2024 لم تضمن تأمين أبسط متطلّبات الحياة الكريمة للموظّفين وعائلاتهم، ولم تساعد الموظّفين على استئناف عملهم. وعليه أعلنت الرّابطة استمرار التوقّف القسري عن العمل، مع حضور يوم واحد في الأسبوع، فقط لمن يستطيع ذلك، لغاية 13 تشرين الأول ضمناً. مع التّأكيد أنّ اليد ممدودة للمفاوضات مع السّلطة لتحقيق المطالب المشروعة، وهي:
- تصحيح الرواتب والأجور لتأمين الحياة الكريمة.
- ضمّ كل الزيادات (المساعدات الاجتماعية) إلى أساس الراتب.
- دولرة الرّواتب واعتماد سعر صيرفة 15 ألف ليرة للموظّفين.
- تأمين بدل نقل عبارة عن 5 إلى 10 ليترات من البنزين يومياً.
- تأمين الطبابة على حساب الجهات الضامنة.
- دعم التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية والمستشفى الحكومي لتقديم الخدمات.
المفارقة الأكبر في ما يحصل في لبنان هو أنّ السلطة تضع موازنات، 95 في المئة منها مخصّص للمصاريف التشغيلية، أي للرواتب والأجور والتقديمات الاجتماعية. فترهق الاقتصاد، وتقلّص الصحن الضريبي، وتهشّل الاستثمارات، وتزيد التضخّم، وترفع العجز، وتعمّق الانهيار.. وتعجز في المقابل عن تأمين بديهيات الحياة الكريمة لموظّفي القطاع العام، وتقديم أبسط الخدمات للمواطنين. وعلى ما يبدو فإنّ العناد بمجافاة الإصلاحات سيستمرّ طويلاً، لأنّ الإصلاحات ببساطة، تمسّ جوهر تركيبة المنظومة وتهدّد مصالحها. وما من حلّ أسهل من شراء الوقت على حساب ما تبقّى من قدرة على الصمود للقطاعين العام والخاص.