في سابقة افتقدها اللبنانيون خلال السّنوات الماضية عموماً، وأعوام الأزمة خصوصاً، أنجزت وزارة الماليّة إعداد مشروع موازنة العام المقبل، وأحالته إلى مجلس الوزراء ليبدأ بدراسته اعتباراً من اليوم
استعاضت السلطة الماليّة عن الرؤية الاقتصادية، بآلة حاسبة "calculator"، عند إعداد مشروع قانون موازنة العام 2024. فسهولة إحصاء النّفقات وتوزيعها على أبواب الإدارات العامّة والوزارات، قابلها استسهال أكبر في وضع الإيرادات. وكما "جحا ما في إلاّ على خالته" بحسب المثل الشعبي، لا تستقوي الدّولة إلّا على المكلّفين الشرعيين من الأفراد والمؤسسات الذين ما زالوا ملتزمين القانون. فثقّلت عليهم بالضرائب والرسوم "المدولرة"، هاملة مكافحة التهرّب والتّهريب والاقتصاد غير النّظامي، وعشرات المواضيع التي يجب فرض ضرائب عليها.
في سابقة افتقدها اللبنانيون خلال السّنوات الماضية عموماً، وأعوام الأزمة خصوصاً، أنجزت وزارة الماليّة إعداد مشروع موازنة العام المقبل، وأحالته إلى مجلس الوزراء ليبدأ بدراسته اعتباراً من اليوم. وقد تكون هذه هي الإيجابية الوحيدة في مشروع الموازنة.
احترام المهل الدستورية
مشروع قانون موازنة العام 2024 التزم بالشّكل بالمهل الدستورية. حيث إنّ المادّة 86 من الدستور أوجبت على مجلس الوزراء إرسال مشروع الموازنة إلى مجلس النواب قبل عقده الثاني. وهو العقد الذي يبدأ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول. ويخصّص للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل أيّ عمل آخر قبل نهاية شهر كانون الثاني. أمّا في المضمون فـ "غصّ" مشروع قانون الموازنة بالضّرائب والرّسوم التي أتت "غبّ طلب" تمويل النفقات، وليس توجيه الاقتصاد وتصويب عمله خلال العام المقبل، كما يفترض بالموازنة أن تكون. وأتت أرقامها مضخّمة جداً. خصوصاً إذا قارنّاها بموازنة العام 2022.
النّفقات في مشروع الموازنة
قدّرت النفقات في مشروع موازنة 2024 بـ 300519 مليار ليرة، بحسب نسخة اطّلعت عليها الّدوليّة للمعلومات، وبزيادة قدرها 7.35 ضعفاً عن موازنة 2022. وقد احتسبت الأرقام على أساس سعر صرف يبلغ 85500 ليرة، ما يعني أنّ حجم الموازنة بالدّولار يصل إلى 3.5 مليار دولار أميركي. وقد شكّلت النفقات التشغيلية حوالي 94.83 في المئة من مجمل النّفقات، فيما لم تتجاوز النفقات الاستثمارية 5.17 في المئة. وحاز بند احتياطي الموازنة على 33.7 في المئة من نسبة الاعتمادات وبمبلغ 101 ألف مليار ليرة. وهذا يعود بحسب الباحث في الدوليّة للمعلومات محمد شمس الدين "إلى كون المساعدة الاجتماعية لموظّفي القطاع العام نقلت من بند وزارة المالية إلى بند احتياطي الموازنة. وقيمة هذه المساعدة تبلغ 70 ألف مليار ليرة".
الإيرادات مبنيّة على الضّرائب
على صعيد الإيرادات المرتقبة فقد "قدّرت وزارة الماليّة أنّها ستحقّق إيرادات بمبلغ يوازي 16 ضعف ما تمّت جبايته في العام 2021 كرقم إجمالي"، بحسب الدّوليّة للمعلومات أيضاً. وهي للغاية عمدت إلى زيادة الضّرائب والرسوم من حيث القيمة، واستحدثت ضرائب جديدة مثل: "رسم استهلاك للحفاظ على البيئة". وهو عبارة عن رسم جمركي تتراوح نسبته بين 1 و4 بالألف يشمل جميع السّلع المستوردة، ولم يستثن حتّى النعوش التي تحتوي جثّة بشرية. هذا بالإضافة إلى رفع الضريبة على القيمة المضافة من 11 إلى 12 في المئة. واستيفاء عدد من الرسوم بالدولار الاميركي وليس بالليرة مثل: الرسوم الجمركية، ورسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد، ورسوم كهرباء لبنان.
المفارقة التي يمكن تسجيلها أيضاً هي أنّ "الحكومة بصدد درس موازنة العام 2024، في حين لم يُقرّ مجلس النواب موازنة العام الحالي، أي موازنة العام 2023"، يقول عضو المكتب التنفيذي للجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين نديم ضاهر. "ومن المحتمل أن يجري إقرار موازنة العام 2024، وغضّ النّظر عن موازنة 2023". خصوصاً أنّ العام الحالي قد شارف على الانتهاء. وبحسب ضاهر فإنّ "موازنة العام 2024 أتت على غرار سابقاتها، خالية من أيّ رؤية اقتصادية أو إصلاحية وتكتفي بإعادة تقييم الضّرائب والرّسوم بعد التضخّم المفرط الذي مرّ به البلد". ومن المواد التي تلفت النظر، المادّة 22 من مشروع القانون. وهي المادّة التي تسمح للمكلّفين تسديد ضرائبهم والغرامات التي تكبّدوها عن السنوات السابقة لتاريخ إصدار موازنة العام 2022، أي قبل 15 تشرين الثاني 2022، من حساباتِهم "اللولارية"، أي الحسابات المصرفية القديمة المكوّنة قبل تشرين الاول 2019. وتحتسب قيمة الأموال على أساس 40 في المئة من سعر الدولار على منصّة صيرفة. وبحسب ضاهر تطرح هذه المادة سؤالين:
- الأول، على أيّ أساس جرى احتساب نسبة 40 في المئة من سعر الصّرف على منصّة صيرفة، وهل جرى مناقشة الرّقم مع مصرف لبنان وكيفية انعكاسه على نسبة التضخّم؟. ذلك أّنّه سيسبّب حتماً بزيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، والتي بدورها تنعكس طلباً إضافياً على الدولار، وبالتالي التأثير سلباً على سعر الصّرف. وفي جميع الحالات فإنّه في الوقت الذي تمثّل فيه هذه المادة "هيركات" مقنّع على المودعين، فهي قد تساعد كبار المودعين، ولاسيّما شركات القطاع الخاص على استعمال دولاراتهم المحتجزة في المصارف لتسديد ضرائب تكبّدوها على مدى السنوات.
- الثاني، افتقارها للعدالة الضريبية، حيث لا تعادل هذه المادّة بين المكلّفين الذين سدّدوا ضرائبهن خلال الأعوام الماضية باستعمال الـ "فريش دولار"، وبين المكلّفين المتخلّفين عن تسديد الضّرائب والذين أصبح بإمكانهم الاستفادة من تدهور سعر صرف الليرة لتسديد التزاماتهم والاستفادة من ودائعهم المحتجزة".
تحصيل الضرائب قبل تحقيق أيّ رقم أعمال
من المواد الملفتة للنّظر التي تضمنّها مشروع موازنة 2024 من أجل تعزيز الإيرادات مادّة "طريفة" تحت الرقم 18. تُخْضع هذه المادّة كلّ شخص طبيعي أو معنوي، ينظّم أمسية عامة أو حفل موسيقي أو أيّ عرض، لضريبة القيمة المضافة حتّى قبل إقامة العرض. ويجب عليه تحصيل ضريبة القيمة المضافة من الحضور. وعليه فإنّ "المنظمات غير الحكومية، على سبيل المثال، التي تجمع الأموال من خلال الأمسيات الخيرية ستخضع لضريبة القيمة المضافة اعتباراً من ليلة الافتتاحية، حتى قبل حدوثها!"، يعلّق ضاهر.
في المحصّلة أتت موازنة 2024 تضخّمية، مشبعة بالضّرائب والرّسوم. وإذا ما قارنّا الزيادات المنوي إقرارها في هذه الموازنة والمعطوفة على الزيادات في موازنتي الأعوام الماضية، مع الزيادات المقرّة على الرّواتب والاجور، لوجدنا أنّ رواتب القطاع العام زادت سبعة أضعاف، والخاص 13 ضعفاً، فيما الرسوم والضرائب زادت بمئات الأضعاف، وستسبّب حكماً بموجة جديدة من ارتفاع أسعار مختلف السّلع والخدمات؛ و"عيش يا فقير".