فارقت منصّة صيرفة الحياة عن عمر يناهز العامين والأربعة أشهر، مطلع آب الفائت، وبدأ إعداد خليفتها المشابهة بالشّكل والمختلفة بالمضمون، لتستلم مكانها في تأمين الدولار للسّوق، وتحديد سعر صرفه مقابل الليرة.

التّحضيرات لـ "حفل تنصيب" منصّة Bloomberg التي ستبدأ بخدمة سوق القطع قبل نهاية هذا الشهر، اكتملت. ومن المنتظر أن يضع مجلس الوزراء، لمساته الأخيرة على "تاج" المنصّة، قبل أن تنقله وزارة المالية إلى مصرف لبنان، ليبدأ التداول بواسطة المنصّة الجديدة قبل نهاية هذا الشهر.

بهذه السلاسة فارقت منصّة صيرفة الحياة عن عمر يناهز العامين والأربعة أشهر، مطلع آب الفائت، وبدأ إعداد خليفتها المشابهة بالشّكل والمختلفة بالمضمون، لتستلم مكانها في تأمين الدولار للسّوق، وتحديد سعر صرفه مقابل الليرة. إلّا أنّ هذه العملية تترافق مع سيل من الأسئلة عن ماهيّة هذه المنصّة وقدراتها وفعاليتها في خدمة الاقتصاد. ولعلّ أكثر الأسئلة تداولاً إن كان اعتمادها سيؤدّي إلى تخفيض سعر الصّرف أو على الأقل ضمان استقراره؟

صيرفة vs بلومبيرغ

المنصّة ببساطة هي عبارة عن برنامج إلكتروني، مصمّم ومراقب من المجموعة المالية العالمية "بلومبيرغ"، المعنيّة أيضاً بتطوير البرمجيات والبيانات الاقتصادية، وبالتنسيق مع مصرف لبنان. وعليه فالمنصّة المستحدثة مشابهة من حيث الشّكل لمنصّة صيرفة القديمة. لكن في المضمون، فإنّ المنصّة الأخيرة أنشأها الحاكم رياض سلامة واستطاع بمونة الأقطاب السياسية على جماعاتهم من الصرّافين ضمّهم إليها، لتحقيق المكاسب المادّيّة"، يقول المستشار المالي ميشال قزح. "فيما المنصة الجديدة ستكون مستقلّة عن المصرف المركزي بشكل عام، وعن سيطرة الحاكم بالإنابة بشكل خاص. ومن المتوقّع أن ينحصر دورها بالتسعير، وليس بالتداول بيعاً وشراءً لليرة والدولار". ذلك مع العلم أنّ الهدف هو ضمّ المصارف والصرّافين الفئة الأولى إلى المنصّة من أجل تحفيز التداول.

الآلية الجديدة لن تحلّ الإشكاليات القديمة المتعلّقة تحديداً بـ: عدم وجود إمكانية لمصرف لبنان تأمين الدولار من احتياطياته الخاصة. التزام الصرّافين بالّسعر الموضوع والتّصريح عن كلّ التعاملات. استمرار وجود سعر صرف ثان مرادف في السّوق الموازية. وإذا كان من المستحيل التوصّل إلى سعر صرف موحّد، طالما لا يوجد ما يكفي من دولارات في النّظام، فإنّ سعر الصّرف في السوق الموازية سيبقى أعلى، وسيحرم المنصّة من فرصة عرض الدولار عليها وحصر مهامها كسابقاتها بعرض الليرة وطلب الدولار. وإن بقي مصرف لبنان مصمّم على عدم التدخّل بالسوق عارضاً للدولار، كما كان يحصل مع صيرفة وبمبالغ تتجاوز بالمتوسط 170 مليون دولار يومياً، فـ"إنّ الفرق بين سعر الصّرف على المنصّة المفترض أن يحدّد بشفافية وسعر السوق، قد يصبح شاسعاً"، من وجهة نظر قزح. "وسيقتصر عرض الدّولار على المنصّة على قلّة من الجمعيّات الدوليّة النظاميّة والشركات العالمية التي تحتاج إلى فواتير رسميّة لمحاسبتها، في حين أنّ الطّلب سيكون من حصّة الشركات المحظيّة وفي مقدّمتها استيراد المحروقات والأدوية".

السّعر المرجعي

بين ليلة وضحاها تحوّلت صيرفة إلى منصّة مرجعية لتحديد أسعار العديد من الخدمات العامّة وفي مقدمتها: الرّسوم الجمركيّة (الدولار الجمركي)، فواتير الكهرباء، الانترنيت، رسوم الاستهلاك الدّاخلي، وغيرها من الرسوم والضرائب الكثيرة، المنصوص عليها في موازنتي العامين 2023 و2024، وغير المقرّة بعد. وبالتّالي فإنّ "الحكومة بحاجة إلى سعر صرف مرجعي لتحديد نفقاتها وإيراداتها المقوّمة بالدولار"، وفقاً لرئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق LIMS الدكتور باتريك مارديني. لكنّ السّؤال كيف سيتحدّد سعر الصّرف على المنصّة الجديدة؟ "فعلى المنصة القديمة جرى تحديد السعر بطريقة تعوزها الشفافية. ومن المقدّر أن يكون السعر المعتمد هو سعر السوق الموازية ناقص 10 في المئة. وعليه لم تكن المنصّة تعكس حقيقة السّوق، ولا يظهر من المستفيد من الدولارات المباعة عليها بهامش ربح سهل وسريع وخال من المخاطر بنسبة 10 في المئة، وتحديداً من التجار المضاربين".

الحلّ الصحيح لتحديد سعر الصّرف وتوحيده

تحديد سعر الصّرف على منصة "بلومبيرغ" بشكل شفّاف، ومراقب دولياً لن يعكس حقيقة السّوق إلّا في حال السّماح للمصارف اللبنانية بيع وشراء الدولار على سعر صرف السوق الحقيقية. وبالتّالي تنفيذ عمليات الصّرف على سعر السوق. وشرط أن يكون الفرق بين الأسعار المعروضة للبيع الفوري والشراء الفوري متدنّي. ساعة ذاك يتحوّل طلب الصيارفة على الكاش إلى المصارف، أملاً بتحقيق هامش أعلى بقليل عن البنوك. وبذلك نكون قد حوّلنا المنصّة من أداة للمضاربة إلى حاجة للجميع وخلقنا سعر صرف واحد، يتغيّر بشكل يومي. ما يعني تعويم سعر الصّرف.

هذه الآلية على أهميّتها يجب أن تترافق مع تخفيض الحكومة لنفقاتها المدولرة بشكل جذري، لأنّ كلفة الّدولار أصبحت مرتفعة جدّاً عليها. والنّجاح بهذه المهمّة يتطلّب التخلّي عن الكثير من الأعمال التي لم تبرع بالقيام بها، ولم تعد تستطيع الاستمرار بها، إلى القطاع الخاص"، من وجهة نظر مارديني. فبدلاً من أن تكون وزارة الطّاقة أو هي المعنيّة بشراء الفيول للكهرباء بالدّولار، على سبيل المثال، فلتسمح لشركات القطاع الخاص توليد الطّاقة وبيعها وبالتالي استيراد الفيول. ومثلها مثل الاتّصالات والانترنيت والنّقل البرّي والجوي وغيرها الكثير من المرافق. وهذه الآلية لا تسمح بتقديم خدمات بشكل أفضل وحسب، إنّما أيضا انتفاء حاجة الدولة للعملة الصعبة من أجل أن تستورد الفيول وبالتالي تراجع حاجتها للدولار. وهناك مشاريع واعدة تتمّ بالتعاون والشراكة بين القطاع الخاص والبلديات ولاسيّما على صعيد الكهرباء والنفايات. وهما قطاعان تتكبد عليهما الدولة مبالغ طائلة بعملة لا تمتلكها". أمّا في حال الإصرار على استمرار احتكار الدّولة للخدمات الأساسية "فلننتقل للدولرة الكاملة على صعيد الانفاق وجباية الإيرادات"، يضيف مارديني. "بحيث يتمّ شراء كلّ الليرات الموجودة بالسّوق بأقل من مليار دولار، وتصبح عملتنا الدولار، وتتحدّد النّفقات بحسب الإيرادات". وهذه الآلية تجبر الدّولة على الإصلاح في القطاع العام. وهو مربط الخيل في أيّ خطّة للنهوض بالاقتصاد والخروج من الأزمة.

على غرار "مات الملك، عاش الملك"، يمكن القول "ماتت صيرفة.. عاشت بلومبيرغ". وهذه العبارة المتناقضة التي تدلّ على استمرارية الحياة، لن تضمن العمر الطويل للاقتصاد، ولن تحميه من الاندثار. فمن دون إجراءات إصلاحية فإنّ مملكة الليرة ستستمرّ بالأفول، جارّةً معها التضخّم وتراجع النموّ وانهيار القدرة الشرائية والفلتان الاجتماعي والأمني إلى القعر.