لَعَيان نفس، تقيّؤ، إسهال، حرارة مرتفعة، ودخول الى المستشفيات بعد فشل المعالجة المنزلية، عوارض تنتج عن التسمّم الغذائي، انتشرت بكثرة في جميع المناطق اللبنانيّة، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، ولم توفّر لبنانيًّا مقيماً أو مغتربًا غنيًّا أو فقيرًا. فيما يرتفع خطر الأمن الغذائيّ للمواطنين بسبب تراجع نوعيّة الطعام والخدمات وارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة الأساسيّة، ما يجعلها صعبة المنال وسط تآكل القدرة الشرائيّة للمواطنين جرّاء الإنهيار الدراماتيكيّ للعملة الوطنيّة مقابل الدّولار ونسب التضخّم المرتفعة.

حيث كشفت بيانات إدارة الإحصاء المركزي، أنّ أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية، سجّلت ارتفاعاً فاقت نسبته الـ 6000 بالمئة منذ كانون الأوّل 2019 وحتّى تشرين الثاني 2022. فيما سجّل مؤشّر تضخّم الأسعار في لبنان ارتفاعاً بنسبة 142 بالمئة خلال الفترة الممتدة من تشرين الثاني 2021 وحتّى تشرين الثاني 2022.

معامل ومطاعم تقفل بالشّمع الأحمر

على المقلب الآخر، نشطت في الآونة الأخيرة حركة ختم معامل ومطاعم بالشّمع الأحمر في عدّة مناطق في لبنان، منها ختم معملي أجبان وألبان في زغرتا، ومعمل لتصنيع الحلويات في مدينة صور، بعد اكتشاف صراصير في البرادات، وإقفال 13 معمل ألبان وأجبان في بعلبك لا يراعون شروط سلامة الغذاء، بالإضافة إلى مطعم في زحلة بعد التحقيق مع 30 مصابًا بالتسمّم. هذا وضجّت وسائل الإعلام منذ حوالي الشهر بخبر تسمّم جماعيّ لـ100 مغترب أسترالي في يوم واحد كانوا في جولة سياحيّة على عدّة أماكن في لبنان. وكيف ننسى تسجيل أكثر من 40 حالة تسمّم غذائي في يوم واحد في شهر تشرين الأوّل من العام 2022، وكانت كافّة الحالات سببها تناول الدجاج من المكان نفسه، وهو محلّ في البقاع الغربي.

ووسط غياب الأرقام والإحصاءات التي تُوضّح نسب حالات التسمّم في لبنان، تصعب عمليّة إحصاء هذه الأخيرة، فيما لا شكّ فيه، أنّها تنتشر على جميع الأراضي اللبنانيّة، ويصعب استثناء أيّ منطقة من خطر سلامة الغذاء.

ويمكن إعادة الأسباب إلى الانقطاع المستمرّ للتيّار الكهربائي ما يضرب الأطعمة المثلّجة، وعلى رأسها اللحوم والدجاج، واستبدال أصحاب المطاعم الموادّ الغالية بأخرى أرخص أو غير معروفة المصدر أو حتّى منتهية الصلاحية، لتقليص الكلفة وتحقيق المزيد من الأرباح مقابل تراجع الجودة والنوعية، بالإضافة إلى بحث المواطنين عن المطاعم والأطعمة "الأرخص"، التي تتلاءم وقدرتهم الشرائيّة، فضلاً عن ضعف أجهزة الرقابة الصحيّة، وغياب المحاسبة، نظرًا لقلّة عدد الموظفين، وإضراب معظمهم عن العمل احتجاجًا على الرواتب المتدنّية.

الحلّ يبدأ بتفعيل عمل الهيئة الوطنيّة لسلامة الغذاء

بدوره رئيس لجنة الصحّة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية، النائب بلال عبد الله وفي حديثه لموقع "الصفا نيوز" ردّ أسباب ارتفاع حالات التسمّم في لبنان، إلى:

أولاً، عدم تطبيق قانون سلامة الغذاء، فالمسألة مرهونة بعدم تعيين رئيس للهيئة الوطنيّة لسلامة الغذاء، وبالتّالي لم يُفعّل عملها، فيما هي الجهّة الوحيدة القادرة على ضبط سلامة الغذاء من المصدر للمستهلك. حيث لم يتمّ تعيين د. إيلي عوض فعليًّا رئيسًا للهيئة، فعلى الرّغم من صدور مرسومه إلاّ أنّه لم ينفّذ، وهو لا يتقاضى راتبه حتّى، فيما المطلوب تعيينه لتضع الهيئة أنظمتها، وتعيّن موظفينها فتصبح فاعلة.

ثانيًا، عدم استكمال حملة سلامة الغذاء التي أطلقها اللقاء الديمقراطي عبر الوزير الأسبق وائل أبو فاعور، على الرّغم من النّجاح الكبير الذي حقّقته، ما أدّى إلى تفلّت كبير.

ثالثًا، تحويل مياه الصرف الصحي والمياه الملوّثة الصادرة عن المعامل إلى الأنهر دون تأمين محطّات تكرير أو معالجة هذا الأمر، وهذا ما يلوّث مياه ريّ الزرع في جميع المناطق اللبنانيّة، ويضرب محصول الفواكه والخضار، كاشفًا أنّ "حالة التسمّم الجماعيّة لسوّاح أجانب من أستراليا، كان سببها المياه الممزوجة بالصّرف الصحي".

رابعًا، "الغشّ والتهريب غير الشرعي من سوريا إلى لبنان للسّلع الغذائيّة كالألبان والأجبان والتي أغرقت السّوق اللبناني في المطاعم ومحلات الباتيسري والأفران، من دون التنبّه إلى الطرق التي تمّ نقلها فيها، وما إذا كانت البرّادات مؤهّلة لحفظ ونقل هذه البضائع. ان هذه الأساليب غير الشرعيّة في استيراد البضائع تؤدي إلى سرقة الدّولة والشعب اللبناني على حدّ سواء، فالمهرّبين لا يدفعون ضريبة الـTVA، لذلك تكون بضاعتهم أرخص بـ20% على الأقل، فيما المستورد الأساسي يدفع الضرائب ويستورد بضائعه بطرق شرعيّة تضمن جودة ونوعيّة السلعة التي يبيعها"، على حسب تعبيره.

خامساً، اعتبر عبدالله، أنّ "أزمة انقطاع الكهرباء بشكل مستمرّ تؤدّي إلى مشاكل في حفظ الأطعمة، وهذه الحالة تسري على المطاعم والمنازل.

سادساً، هنالك جزء كبير من المطاعم يشغّل عمالة أجنبيّة غير كفوءة تستهتر بمعايير سلامة الغذاء.

سابعاً وأخيراً، غياب الرقابة بسبب النّقص في عدد الموظفين المعترضين على رواتبهم المتدنيّة وعدم تأمين بدل النقل المطلوب، فيما الرقابة تحتاج إلى عمل ميداني وليس مكتبي.

ولم ينكر عبدالله الجهود التي يقوم بها مدير عام وزارة الإقتصاد محمّد أبو حيدر، أو وزارة الصحّة العامة في بعض المناطق كبعلبك وغيرها على الرغم من الإمكانيات المتواضعة، إلاّ أنّه شدّد على أنّ "الحلّ يبدأ بتفعيل عمل الهيئة الوطنيّة لسلامة الغذاء".

كيف نحمي أنفسنا من التسمّم؟

من جهتها أشارت أخصّائيّة التغذية "بتول اللو" في حديثها لموقع "الصفا نيوز" إلى بعض الأسباب التي قد تسبب في تلوث الغِذاء ومنها:

1- تلوث الغذاء بالبكتيريا الضارّة أو الفيروسات أو الطفيليات أو السموم خلال مراحل الإنتاج المختلفة، بما في ذلك مراحل الزراعة والمعالجة والتعبئة والتوزيع.

2- الفشل في تخزين الطّعام بشكل صحيح أو الحفاظ على درجات الحرارة المناسبة، وهذا الأمر يمكن أن يعزّز نمو البكتيريا ويزيد من خطر مسبّبات الأمراض المنقولة بالغذاء. كما أنّ ترك الطعام في درجة حرارة الغرفة لفترة طويلة أو تخزينه في ظروف تشجّع على تكاثر البكتيريا، يمكن أن يؤدّي إلى تلوّثه.

3- التلوث الانتقالي "Cross contamination "، ويحدث عندما تنتقل مسبّبات التلوث عبر الأدوات المشتركة كالسكاكين أو ألواح التقطيع أو أسطح التحضير، أو الى عدم الفصل بين الأطعمة النيئة والأطعمة المطبوخة، أو أن تكون إجراءات التنظيف غير كافية.

4- الاكثار في استهلاك الأطعمة النيئة أو غير المطبوخة جيداً، مثل اللحوم والدواجن والمأكولات البحرية والبيض يزيد من خطر التسمّم الغذائي، حيث تحتوي هذه الأطعمة على بكتيريا أو طفيليات ضارة يتمّ التخلص منها من خلال الطهي الجيد.

5- عدم الاهتمام بالنظافة الشخصية، يمكن لمتداولي الأغذية الذين لا يتبعون اجراءات نظافة كافية، نقل الملوّثات إلى الطعام الذي يقومون بإعداده أو تقديمه للزبائن.

وشدّدت الاخصائية "اللو" على ضرورة "التحقّق من سلامة الغذاء وتحديد الأسباب المحدّدة لحوادث التسمّم الغذائي من خلال التحقيقات الوبائية الشاملة وعمليات التفتيش التي تساعد في تحديد الأسباب الجذرية وتنفيذ التدابير المناسبة للحدّ من حدوث حالات تسمم أو التخلص منها نهائياً".

ولفتت إلى أنّه "هناك أنواع معينة من الأطعمة أكثر عرضة من غيرها، تسبّب في التسمّم الغذائي بسبب خصائصها أو طريقة التعامل معها"، منها:

1. البيض واللحوم والدواجن النيّئة أوغير المطبوخة جيداً، التي تحتوي على بكتيريا ضارّة مثل السالمونيلا والإشريكية القولونية والعطيفة.

2. المأكولات البحرية النّيئة أو غير المطبوخة جيداً، التي يمكن أن تحمل بكتيريا Vibrio أو النوروفيروس، والتي تسبّب بأمراض في الجهاز الهضمي.

3. منتجات الألبان غير المبسترة والبراعم النيئة، التي يمكن أن تكون مصدراً للسالمونيلا أو الإشريكية القولونية أو الليستيريا.

4. الفواكه والخضراوات المقطّعة مسبقاً أو غير المغسولة.

ونصحت "اللو" وجوب إتّباع نظام غذائي متوازن ومغذّي يشمل الفيتامينات والمعادن ومضادات الأكسدة والمواد المغذية الأخرى ليلعب دوراً حاسماً في دعم وظيفة المناعة. على أن يتضمّن الفواكه والخضروات الغنيّة بالفيتامينات A وC و Eوالمعادن ومضادات الأكسدة كالفواكه الحمضية والتوت والخضار الورقية والفلفل الحلو والقرنبيط والجزر. إلى جانب الأطعمة الغنيّة بالبروبيوتيك، كالأطعمة المخمّرة مثل الزبادي والكفير والمخلّل الملفوف والكيمتشي والكومبوتشا، والتي تحتوي جميعها على بكتيريا مفيدة تدعم صحّة الأمعاء. بالإضافة إلى الأطعمة الغنية بالدهون الصحية، كالأفوكادو وزيت الزيتون والمكسّرات والبذور، حيث توفّر الأحماض الدهنية الأساسية التي تساعد على تعديل الاستجابة المناعية وتقليل الالتهابات. وأخيرا شرب الكثير من شاي الأعشاب والماء".

المواطنون يستغنون عن الأكل الجاهز

إلى ذلك نقل عدد من المواطنين شكواهم من التسّمم الغذائي إلى موقع "الصفا نيوز"، حيث قالت لميتا عزار، "إنني أصبحت أتقشّف بطلب الأكل الجاهز الـ"Delivery" أو بالخروج إلى المطاعم والمقاهي لعدّة أسباب، أوّلها تراجع جودة الطعام، حيث مذاق الأطعمة لم يعد كما كان، كما أنّ الكميّة أصبحت أقلّ، فيما حالات التسمّم ارتفعت، ولعلّ المشكلة على الأغلب هي من الدجاج الفاسد، فضلاً عن الأطعمة التي تدخل في صناعتها الحليب ومشتقاته، والتي وبسبب حرارة الطّقس المرتفعة تمرضنا".

وكما لميتا، تقول فاطمة نجّار، في حديثها لـ"الصفا نيوز"، اعتدنا أنا وزوجي على الخروج مرّتين في الأسبوع على الأقلّ لتناول العشاء معاً في أحد المطاعم الفاخرة، حرصاً منّا على عدم التعرّض للتسمّم. إلاّ أنّه على ما يبدو، لم تعد مسألة التسمّم محصورة بالمطاعم الرخصية، بل طالت المطاعم الغالية أيضاً. وبعد أن تكرّرت حادثة التسمّم معنا أكثر من مرّة ومن أكثر من محلّ، حصرنا طلباتنا في المطاعم بالنرجيلة وفنجان القهوة.

فيما تشرح ليال حنّا، في حديثها لـ"الصفا نيوز"، إنني اتفقت مع صديقاتي على حصر جمعاتنا في المنازل وتحضير الأطعمة، متخلّين عن الخروج أو طلب الديلفري خوفاً من التسمم في المطاعم.