مع إطفاء المجلس المركزي لمصرف لبنان شمعة الشّهر الأول على استلام مهام الحاكمية، أضاء فضاء النّظام النّقدي بالإعلان في بيان عن "أخذ القرار بتعديل بيان الوضع الموجز المعدّ للنشر لكي يتلاءم مع المعايير والأعراف الدوليّة المعتمدة في المصارف المركزية، وذلك لمزيد من الشفافية
يجهد المجلس المركزي لمصرف لبنان لترجمة الشّروط التي وضعها لاستلام مهام الحاكمية، إلى أفعال. وإذا كان مشوار الألف ميل في تطبيق سياسة نقديّة سليمة يبدأ بخطوة الإصرار على عدم تسليف الدّولة بالليرة أو الدّولار. فإنّ الخطوة الثانية تتمثّل باعتماد المعايير الدّوليّة في محاسبة المصرف المركزي، وفي النّشر والإفصاح عن البيانات الماليّة بشفافيّة ومصداقيّة.
مع إطفاء المجلس المركزي لمصرف لبنان شمعة الشّهر الأول على استلام مهام الحاكمية، أضاء فضاء النّظام النّقدي بالإعلان في بيان عن "أخذ القرار بتعديل بيان الوضع الموجز المعدّ للنشر لكي يتلاءم مع المعايير والأعراف الدوليّة المعتمدة في المصارف المركزية، وذلك لمزيد من الشفافية. وبتشكيل لجنة مهمّتها تعديل النظام المحاسبي المعتمد في مصرف لبنان لكي يتماشى مع معايير المحاسبة الدولية، ووضع خريطة طريق انتقالية لاعتماد المعايير المطبّقة في المصارف المركزية العالمية". ووعد البيان الموقّع من الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بـ "نشر بيان وضع موجز كلّ 15 يوماً في الجريدة الرسمية. وأنّه سيقوم بنشر بيان الوضع الموجز كما في 15/8/2023 والفترات اللاحقة، وبعد إضافةً الإيضاحات والشروحات اللازمة تسهيلاً لقراءتها من قبل الجمهور. وذلك إلى حين إجراء التعديلات اللازمة". وبالفعل عاد المركزي ونشر بعد ساعات الميزانية نصف الشهرية التي تضمّنت اختلافات جوهرية عن تلك التي كان ينشرها المركزي في الفترات الماضية.
اختلافات جوهرية
أكثر ما يلفت الانتباه في الميزانيّة نصف الشهرية المنشورة في الأول من أيلول، عن النّصف الثّاني من شهر آب، بالمقارنة مع الميزانيات السّابقة، أمران أساسيان:
الأول، إزالة البندين الإشكاليين اللذين أضافهما الحاكم السابق رياض سلامة قبل أن تنتهي ولايته بمدّة قصيرة، وهما:
- بند "دين على القطاع العام" الذي أضافه في خانة الموجودات في منتصف شباط 2023، وحمّل ديناً على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار.
- بند "تعديل إعادة التقييم"، والذي أدرج أيضاً في خانة الموجودات، أضافه في منتصف أيار وحمّل ديناً على الدولة يعادل 34.8 مليار دولار.
الثاني، تقييم سندات "اليوروبوندز" التي يحملها المركزي بقيمتها السّوقيّة الفعليّة وليس قيمتها الإسمية، وعدم احتسابها مع مجموع الموجودات. فمن حيث الشّكل أتى بند "القيمة السوقيّة لمحفظة سندات "اليوروبوندز"، تحت خانة مجموع الموجودات الخارجية السائلة، أمّا في المضمون فإنّ قيمة هذه السندات احتسبت 421.8 مليون دولار وليس 5 مليارات دولار بحسب قيمتها السوقية. ما يعني أيضاً أنّ قيمة السند الواحد الفعلية في الأسواق العالمية تعادل 8،4 دولار للسند الواحد بدلاً من 100 دولار.
تنظيف الميزانية
من الواضح أنّ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري مصرّ على "تنظيف الميزانية"، يقول المستشار المالي د. غسّان شمّاس. خصوصاً أنّ الميزانية السابقة كانت غير دقيقة. فمرّة تتضمن بند "أصول أخرى" تخفى فيه الخسائر المحقّقة. ومرّة يظهر فيها ديون مستجدّة على الدّولة بأكثر من 40 مليار دولار. ومرّات أرقام "مشلوحة"، يمنة ويسرى، تحتاج طلاسم لفك ألغازها. "كلّ هذا لم يعد موجوداً في الميزانية نصف الشهرية الجديدة. وأصبحنا نرى أرقاماً دقيقة أكثر في ما يتعلّق بالاحتياطي".
بانتظار إعادة الهيكلة
لكن كيف اختفى البندان المتعلّقان بإضافة دين على الدولة؟ يجيب شمّاس بأنّ الدّين على الدولة غير قائم في الأساس بالطريقة التي كان يكتبها المركزي في ميزانيته. فإن كان المركزي أقرض الحكومة بالليرة فليضعه ديناً بالليرة، وإن كان قد اشترى لها الدولار، فمن حساب من؟ وعلى أساس أيّ سعر صرف؟ هل يحول إلى الليرة على أساس سعر الصّرف القديم 1500 ليرة، أو السّعر الجديد 15000 ليرة، أو حتّى سعر السوق 90 ألف ليرة". وبرأي شمّاس فإنّ "بنود الدين على الدّولة وضعت جانباً إلى حين التّحديد بشكل دقيق أين هو هذا الدين، وعلى من يترتّب، وبأيّ عملة، وبحسب أيّ سعر صرف، وما هو المسوّغ القانوني الذي سمح بالاستدانة". بمعنى آخر تمّ "تفريز" بند الديون بانتظار إعادة هيكلة الدين العام، وتحديد الطّريقة التي ستعتمد لتوزيع الخسائر بين الجهات المعنيّة، أي الدولة والمركزي والمصارف والمودعين. ويشدّد شمّاس على أنّ "الدين على الدولة الذي يظهر في ميزانية المركزي في خانة الموجودات، يجب أن يظهر مماثلاً في خانة المطلوبات في الموازنة العامّة للدولة. وهذا ما لا يمكن تحقيقه في ظلّ استمرار العمل على أساس الموازنات الاثني عشرية".
أرباح سكّ العملة
هناك بعض الخسائر المحقّقة والناتجة بشكل أساسي عن عملية طباعة الليرات أو ما يعرف تقنيا بـ seigniorage. وهي العملية التي تظهر تحقيق المركزي الربح من خلال إصدار العملة. وذلك من خلال احتساب الفرق بين القيمة الاسمية للعملات وتكاليف إنتاجها كإيرادات. وهو الحساب الأهم الذي ممكن التلاعب به. فطباعة 100 مليار ليرة، تضمن له تسجيل موجودات بقيمة 100 مليار دولار. وهكذا دواليك.
"ما يمكن قراءته في الميزانية الأخيرة المنشورة من المصرف المركزي، أنّ إدارة الأخير تعمل على تنظيف الميزانية، على مراحل"، من وجهة نظر شمّاس، وهذه العملية يجب أن تستتبع بالتعمّق أكثر بالتدقيق الجنائي، كون نتيجة التدقيق السابق بيّنت أنّه "سطحي"، ومعلّق بشروط مواربة، لا تخدم الهدف الأساسي من هكذا نوع من التدقيق.
وعليه فإنّ المرحلة المقبلة ستكون حاسمة يضيف شماس، "إمّا التغطية الكاملة والشاملة عن المخالفات الجسام التي حصلت خلال الفترة الماضية. وهذا مستبعد نظراً لتكبّد أكثر من مليون ونصف المليون مودع خسائر تتجاوز 72 مليار دولار في النظام المصرفي نتيجة هذه الأخطاء. وإمّا نكون أمام مرحلة كشف دوري ومتتابع عن كلّ "الجثث المخبّأة تحت سجادة" المركزي"، على حدّ قول المثل الأجنبي. ومن بعدها المحاسبة. وهذا هو المطلوب.