مؤخّراً وقّع وزير الطاقة وليد فياض عقداً لاستقدام شحنتي غاز أويل، زنة 33 ألف طن للشحنة الواحدة، قبل أن يستحصل على موافقة اللجنة الوزارية الخاصّة بملفّ الكهرباء
ما يحصل في الكهرباء اليوم لجهة مخالفة الأصول المحاسبية باستقدام بواخر النّفط للمعامل قبل فتح الاعتمادات، شوهد (déjà vue) في الأمسين القريب والبعيد. المشكلة وليدة نظام ما بعد الحرب الذي كرّس الأخطاء على ثلاث مستويات قاتلة: الإداري، السياسي والنّقدي. فالوزير يتربّع على عرش مركزية أخذ القرار من دون وجود هيئات ناظمة "تدوزن" القرارات وتبعدها عن المصالح السياسية. والخلافات السياسية بين الوزراء المنتمين إلى جهات متخاصمة تمعن في وضع الملح على الجروح النازفة. ومصرف لبنان يغطّي الخسائر بهندسات مبنية على أموال المودعين.
مؤخّراً وقّع وزير الطاقة وليد فياض عقداً لاستقدام شحنتي غاز أويل، زنة 33 ألف طن للشحنة الواحدة، قبل أن يستحصل على موافقة اللجنة الوزارية الخاصّة بملفّ الكهرباء. وذلك وفقاً للآلية التي اتّفق عليها في نيسان الفائت. وبالفعل وصلت الشحنة الاولى، ورست قبالة الشواطئ بانتظار فتح الاعتماد لإفراغ الحمولة، وبدأت بتسجيل غرامة 18 ألف دولار مع كل يوم تأخير وتعطيل، منصوص عليها في نصّ التعاقد. ومع إصرار اللجنة الوزارية على عدم إعطاء الموافقة، والتوصية بإرجاع الشّحنة وإلغاء العقد، مع تحميل الوزير مسؤولية الخطأ (غير المقصود). وفي ظلّ رفض مصرف لبنان المطلق بتحويل ما في حساب الكهرباء من ليرات إلى دولار ألغيت الصفقة. وفي سابقة غير مفهومة في مجال الأعمال تنازلت الشّركة عن العطل والضرر الذي لحق بها وعادت أدراجها بهدوء.
التّاريخ يكرّر نفسه
"الخطأ غير المقصود"، الذي تحجّج به وزير الطاقة لتبرير استقدام بواخر النّفط لمعامل الكهرباء قبل فتح الاعتمادات، ما هو إلّا النّهج المكرّس منذ التسعينيات. "وهو ما ينمّ عن سوء إدارة قطاع الكهرباء بشكل عام"، يقول المراقب المالي في مؤسسة الكهرباء منذ العام 2001 ولغاية 2005، أمين صالح. وبقراءة لمعاصرته مجلسي إدارة في المؤسّسة وأكثر من وزير للطاقة يستنتج أمين صالح أنّ "تأخير فتح الاعتمادات لاستيراد الفيول كان هدفه مراكمة الغرامات بمئات آلاف الدولارات وتوزيعها على المحسوبيات". مع الترجيح أن يكون عملاً مقصوداً.
للتبسيط فإنّ مديرية النّفط في وزارة الطّاقة والمياه تجري صفقات المحروقات لزوم معامل الكهرباء، بناءً على طلب من مؤسسة الكهرباء. حيث تعمد الأخيرة إلى تحديد الكمّيّة والحاجة والنّوعيّة، أي المواصفات، سواء كانت المادّة المستقدمة هي المازوت للمعامل القديمة، أو "الغاز أويل" للمعامل الحديثة. ومن بعد أن ترسي النّفقة، تبلّغها وزارة الطاقة لمؤسسة كهرباء لبنان، التي تكون مستعدّة للإجراء من خلال فتح اعتماد في موازنتها لهذه النفقة. إلّا إنّه بالنّظر إلى عجز الكهرباء الدائم، كانت الماليّة تعطي سلف الخزينة بالليرة للمؤسسة، وتحوّلها إلى الدّولار في مصرف لبنان على سعر الصّرف الثابت 1500 ليرة من أجل تسديد ثمن المواد. "ودائماً ما كانت إحدى الجهات المعنيّة بهذه العملية، أي الحكومة، ووزارتي الماليّة والطّاقة، والكهرباء تقوم بتأخير فتح الاعتمادات لأسباب وأسباب"، كما لاحظ صالح عند استلامه مهمّة التدقيق المالي في المؤسسة. "الأمر الذي كان يرتب غرامات وفوائد على الخزينة اللبنانية". ويضيف صالح أنّه عندما كان مراقباً ماليّاً كان يطلب من مؤسسة الكهرباء تحديد الاحتياجات بموجب جدول مسبق، وإجراء الصّفقات قبل انتهاء المخزون بفترة محدّدة، وفتح الاعتمادات قبل إجراء صفقات شراء الفيول كي لا يترتّب فوائد لصالح الشركات". وفي المقابل فإنّ شركات المحروقات كانت تتأخّر أيضا في أحيان كثيرة عن الالتزام بموعد التّسليم. وبالتّالي يترتّب عليها غرامات وفوائد أيضا. وعليه فإنّ الضّرر كان يقع على الطرفين نتيجة الإدارة السيّئة. وكان الحلّ الأنسب الذي اعتمده صلاح هو طلب عدم تسديد الغرامات من الخزينة إنّما إجراء المقاصّة بين الدّولة والشّركات لعدم تحميل الخزينة أيّ أعباء وفقاً لعقود الصّفقات وعقود التوريد.
القديم على قدمه
منذ نهاية القرن العشرين ولغاية اليوم، والأمور تدار بالعقليّة نفسها بالطّريقة ذاتها. الأمر الذي يطرح علامة استفهام كبيرة عن العلاقة بين المسؤولين اللبنانيين وشركات النّفط، ومن المستفيد من هذه العلاقة وعلى حساب من؟ الجواب وإن كان معلوماً من قبل الأغلبية، فإنّ تحقيقاً رسميّاً في هذا التّاريخ الطويل من الإدارة السّيّئة، ومحاسبة. ذلك مع العلم أنّ وزارة الماليّة وجهت في العام 2003 كتاباً إلى مقام مجلس الوزراء يتعلّق بمشاكل الكهرباء، خلاصته: "إن لم يُعالج موضوع الكهرباء بمقاربات جديدة، فإنّ هذا الموضوع شكّل ويشكّل نزفاً مستمرّاً لخزينة الدولة". وبعد مضي سبعة عشرة عاماً على الكتاب كانت الحكومات قد قدّمت قروض أو سلف إلى مؤسّسة الكهرباء بحدود 28 مليار دولار.
إذاً، الجدل المتعلّق بفتح الاعتمادات لبواخر الفيول مستمرّ منذ سنوات طويلة، والمخالفات المسجّلة في هذا الإطار والمرفوعة إلى ديوان المحاسبة كثيرة. وهي تُجمع على أنّ عقد نفقة من دون فتح الاعتماد، تعتبر مخالفة وتقتضي من التفتيش المركزي تحديد المسؤوليات وتحميلها للجهة المعنية. وفي ما خصّ الكهرباء فإنّ هذه الجهات هي: الطّاقة والماليّة ومؤسسة الكهرباء. وبحسب المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية أنّ كلّ من عقد نفقة وهو يعلم أنّه لا يتوفّر لها اعتماد يعتبر مسؤولاً شخصياً بأمواله الخاصة عن هذه النّفقة، وبالتّالي فإنّ كلّ من رتّب أعباء على الخزينة خلافاً للقانون يتحمّلها من ماله الخاص.
طبعاً المسؤولية الشخصيّة عن الأخطاء لم تُحمّل تاريخياً لأيّ وزير أو مسؤول. إنّما من يتحمّل هو المواطن سواء كان من خلال زيادة الضرائب والرّسوم لتعويض العجز في الخزينة أو من خلال عدم الحصول على واحدة من أبسط الحقوق وأكثرها أهمّيّة لنموّ الاقتصاد. فمع العجز عن فتح الاعتمادات وعدم كفاية النّفط العراقي فإنّ التقنين القاسي في الكهرباء مستمرّ إلى أجل غير مسمّى، وبكلفة لم تعد محمولة من قبل الأغلبيّة السّاحقة من المواطنين.