نجاة لبنان من "قطوع" انفصاله كلّيّاً عن شبكة كهرباء الدّولة نهاية الأسبوع المنصرم، لا يعني أنّ الخطر قد زال. فلا يكاد يمضي يوم في هذا البلد المأزوم، و"يمضي شرّه معه"، على حدّ القول المأثور. فالمصائب تتوالى من كلّ حدب وصوب. وآخرها على صعيد الطاقة، توقّف شركة "برايم ساوث" لفترة مؤقّتة عن تشغيل معملي دير عمار والزهراني نتيجة عدم تقاضيها مستحقّاتها. وإنّ كان العمل في المعامل قد عاد مع التعهّد الحكومي بتسديد المتوجّبات، إلّا أنّ المؤشرات لا تبشّر بالخير.
تواجه خطّة طوارئ الكهرباء معضلتين أساسيتين:
- تحويل ليرات الجباية إلى دولار من أجل الاستمرار في فتح اعتمادات استيراد الفيول، وتأمين احتياجاتها.
- عدم كفاية الجباية من أجل زيادة الإنتاج ورفع التغذية إلى ما بين ثماني وعشر ساعات يومياً.
عائق تحويل ليرات الجباية إلى دولارات طازجة
في ما يتعلّق بالشقّ الأول، لم يتمّ التوصّل بعد إلى حلّ يضمن تحويل مصرف لبنان إيرادات فواتير الكهرباء المقدّرة لغاية منتصف آب بـ 2517 مليار ليرة إلى الدولار على سعر منصة صيرفة + (تعادل 37.2 مليون دولار). ذلك مع العلم أنّ "خطّة الطوارئ الوطنية لقطاع الكهرباء في لبنان" التي أقرّها مجلس الوزراء تحت الرقم 300 بتاريخ 5 آب 2022، قد نصّت في المادة الثالثة على التالي: "التزام المصرف المركزي خطّيّاً بتأمين تحويل المبالغ المتوفّرة في حساب مؤسّسة كهرباء لبنان بالليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي. وذلك حسب سعر الصّرف على منصّة صيرفة".
إلّا أنّه في الوقت الذي استحقّ فيه تحويل الليرات إلى دولارات كانت ولاية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي تعهّد بتنفيذ القرار، قد انتهت. "فهل كان التعهّد بمثابة قنبلة موقوتة، وقّتها سلامة لتنفجر بمن يخلفه"، يسأل مصدر مصرفي متابع، ليجيب أنّه "بقانون النّقد والتسليف، وتحديداً المادة 75 منه، يحقّ للمصرف المركزي استعمال الوسائل التي يرى أنّ من شأنها تأمين ثبات القطع. وفي حال تبيّن أنّ تدخّله بالسّوق شارياً للدولار سيؤدّي إلى التأثير سلباً على سعر صرف الليرة، يحقّ له أن يرفض. خصوصاً أنّ مهمّته الأساسية كمصرف مركزي هي حماية النّقد وليس "جمعية خيرية" هدفها الاستجابة لمتطلّبات الحكومات ومؤسسات الدولة". وبرأي المصدر فإنّ "مشكل الآلية التي أقرّت بخطة الطّوارئ، تتطلّبها بشكل دوري ضخّ الليرات في السّوق من أجل شراء الدولارات. وهذا ما قد يرتدّ سلباً على قيمة الليرة والسياسة التي يتبعها المصرف المركزي".
عائق الهدرين يفاقم المشاكل
أمّا في الشقّ الثاني وهو الأخطر، لارتباطه بديمومة الخطّة وقياس مدى نجاحها، فـ"إنّ نسبة الجباية خلال الأشهر الخمسة الأخيرة أي منذ أيلول 2022، تاريخ بدء الفوترة على التسعيرة الجديدة ولغاية 16 آب الحالي، لم تتجاوز بحسب تحليل الأرقام التي أعلنت عنها وزارة الطاقة 34 في المئة"، يقول المتابع لملف الكهرباء المهندس محمد بصبوص. "فبعملية حسابية بسيطة يتبيّن أنّ عدد مشتركي الكهرباء المنشور على موقع المؤسسة يبلغ قرابة 1.5 مليون مشترك، وإذا افترضنا أنّ متوسط الاستهلاك هو 300 كيلوواط شهرياً، وأضفنا اليه الأكلاف الثابتة كبدل تأهيل واشتراك العدّاد، فإنّ المبلغ المجبى يجب أن لا يقلّ عن 108 مليون دولار. في حين أنّ الجباية بلغت 37.2 مليون دولار. ما يعني أنّ نسبة الهدرين التقني وغير التقني وصلت إلى 66 في المئة". ذلك مع العلم أنّ خطّة الكهرباء كانت قد تعهدت بتخفيض الهدرين إلى أقلّ من 17 في المئة بالتوازي مع بدء تطبيق خطّة الطوارئ. من خلال تفعيل الجباية ونزع التعديات وإلزام المؤسسات العامة بتسديد ما عليها من متأخّرات، والتنسيق مع الوكالات الدولية للدّفع عما تستهلكه المخيمات والنازحين السوريين. والنقطة الأهمّ التي يجب التّركيز عليها بحسب بصبوص هي "ميزانية مؤسسة كهرباء لبنان التي ادّعت وزارة الطاقة أنّها للمرة الأولى منذ سنوات، أتت متوازنة، وبدون عجز مالي أو طلب لأيّ مساهمة مالية من الدولة فيها، بالارتكاز على مقوّمات خطة الطوارئ الوطنية لقطاع الكهرباء في لبنان".
أسباب تراجع العائدات
تراجع العائدات من الجباية يعود بحسب مصدر متابع إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
- ازدياد معدّلات السّرقة "التعليق على الخطوط، توقيف العدّادات.. وغيرها من الأساليب"، بسبب عدم قدرة الكثير من المشتركين على تحمّل الفواتير التي يفوق الحدّ الادنى لقيمتها عن شهرين لأسرة تستهلك أقلّ من 100 كيلوواط شهريّاً مشتركة بعداد 15 امبير، المليون وثمانمائة ألف ليرة.
- عدم تسديد متأخّرات فواتير الطّاقة الكهربائية المستهلكة من قبل الإدارات والمؤسّسات العامة، والمقدّرة قيمتها بحسب خطة الطّوارئ بـ 200 مليون دولار في السنة.
- عدم بدء الجهات الدولية بتسديد الفواتير عن مخيّمات النازحين لغاية الآن. والدليل هو إعلان مؤسسة الكهرباء في بيان أنّها "تثمّن المساعي المبذولة مع جانب الـUNRWA والـUNHCR للتوصّل إلى نتيجة بغية تسديد فواتير استهلاك الكهرباء من مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين ومخيمات النازحين السوريين في لبنان". ممّا يعني أنّ التسديد لم يتمّ بعد. وتقدّر قيمة المتأخرات بحوالي 500 مليون دولار.
- توفّر ثلث الحاجة للكهرباء من مصادر الطاقة الشمسية وبمعدل وصل حتى منتصف هذا العام إلى 1000 ميغاواط. وتعمّد ثلث المشتركين إطفاء عدّاداتهم. وعدم تسديد إلّا الجزء الثابت من الفاتورة.
لا دعم للخطّة
أمام هذا الواقع يقفز إلى الواجهة البند "4" من خطة الطّوارئ، والذي نصّ حرفيّاً على التالي: التزام جميع الأطراف المعنيين ببنود الخطّة بتقديم الدعم اللوجستي والسياسي المطلوبين لإنجاحها. وهذه الجهات هي: مجلس الوزراء، وزارة الطاقة والمياه، وزارة المالية، المصرف المركزي، وزارة الداخلية والبلديات، وزارة الدفاع الوطني، وزارة العدل، وسائل الاعلام، المؤسسات العامة والبلديات. ومن دون الغوص في التفاصيل، يمكن الملاحظة سريعاً أنّ الحكومة مبتورة، ومصرف لبنان محكوم بحدود نقدية للتعاون. والبلديات عاجزة، ولا تزال تسدّد بمعظمها راتب واحد للموظفين وبدل نقل 24 ألف ليرة. ولم نشهد حملات متعاقبة ومتواصلة من قبل القوى الأمنية لنزع التعديات وملاحقة المخالفين.
كلّ هذه العوامل من المتوقّع أن تعيدنا إلى مربّع الأزمة الأول الذي انفجر كلّياً في العام 2021، مع فارق أساسي أنّ التعرفة لم تعد محمولة من قبل ثلاثة أرباع اللبنانيين.