تجنّب المرحلة الثّالثة من الأزمة ما زال ممكناً، خصوصاً في ظلّ تلمّس تجمّع رجال وسيدات الأعمال إصرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري على المضيّ قدماً بالإصلاحات النقدية
يشبّه أحد الاقتصاديين الوضع في لبنان بحبّة المشمش "الكوربية" من الخارج، فيما الدود ينخرها من الدّاخل. ومهما بدا الوضع طبيعياً للنّاظر من بعيد إلى حركة الوافدين وبعض المطاعم والمنتجعات والحفلات الموسيقيّة، فإنّ تكبير الصّورة يُظهر تحلّل الخدمات وارتفاع منسوب الفوضى وضعف أجهزة الدّولة والاستعصاء عن الاصلاح. هذه العوامل بدأت تهدّد بدخول البلد المرحلة الثّالثة من الانهيار والتي يصعب الخروج منها.
مرّت الأزمة الاقتصادية اللبنانية لغاية اليوم بمرحلتين أساسيتين:
- المرحلة الأولى تمثّلت بتداعي "مخطّط بونزي"، وما نتج عنه من صدمة تبخّر الودائع والعجز عن إعادة الديون الداخلية وانهيار تصنيف لبنان الائتماني بعد التخلّف عن سداد الديون الخارجية.
- أمّا المرحلة الثّانية فكانت محاولة "هضم" الانهيار، ولكن على طريقة حاكم مصرف لبنان السّابق رياض سلامة "بكرا بيتعوّدوا"، وليس من خلال المباشرة بالإصلاحات. وفي هذه المرحلة الممتدة منذ أواسط العام 2020، كرّست المنظومة خطأ السياسات السّابقة من خلال التخبّط في سياسات الدّعم، ورفعه. فأهدرت ما يقرب من 9 مليارات دولار على الدّعم. وفقدت العملة الوطنية 98 في المئة من قيمتها الشّرائية، وزادت معدّلات الفقر والبطالة، وحلّق التضخم عالياً، وفشلت السلطة في تحقيق الإصلاحات، وذلك على الرغم من توقيع اتفاق أولي مع صندوق النقد الدّولي على صعيد الموظّفين.
أمام هذا الواقع المأساوي يصعب على كثر التّصديق أنّ الأسوأ لم يأت بعد
المرحلة الثّالثة من الانهيار
أمام هذا الواقع المأساوي يصعب على كثر التّصديق أنّ الأسوأ لم يأت بعد. إلّا أنّه في حال استمرار مجافاة الإصلاحات، وفي مقدّمتها: تقليص الاقتصاد النّقدي، الذي يسيطر على 46 في المئة من الاقتصاد بحسب البنك الدّولي. والامتثال لمتطلّبات مكافحة تبييض الأموال والتّهرّب الضريبي. "فقد نكون أمام تداعيات كارثيّة على القطاع الخاص الشّرعي، فيما لو تمّ فرض عقوبات على لبنان ومؤسّساته الماليّة"، يقول رئيس تجمّع رجال وسيدات الأعمال اللبنانيين نقولا بوخاطر. كما أنّ "غياب الرّقابة ووجود مؤسّسات ماليّة غير شرعيّة تعمل عبر كافّة الأراضي اللبنانية، يشكّلان عبئاً ثقيلاً جداً يجب معالجته بشكل عاجل".
العقوبات ونتائجها
نوعان من العقوبات يمكن أن تفرض على لبنان ككيان عام وهي:
- عقوبات قيصر، وهو قانون أميركي يسمح بفرض عقوبات على الدّول والكيانات التي تساهم بتمويل الأنظمة الخاضعة لعقوبات، وتوفير احتياجاتها الماليّة والتقنيّة والعينية. وفي الحالة اللبنانية فإنّ الشّكوك تدور حول مساعدة النّظام السّوري من خلال التهريب والتهرّب الجمركي، والتي قد تدفع هذه التجاوزات إلى فرض العقوبات.
- عقوبات ماغنتسكي، وتفرض على الكيانات والأفراد المتّهمة بالفساد وبانتهاك حقوق الإنسان. وفي الحالة اللبنانية فإنّ تصنيف لبنان السيّء على مؤشّر مدركات الفساد وتعاظم الاقتصاد النّقدي وشبهات تبييض الأموال وسرقة أموال المودعين وتكاثر الفساد في مختلف مؤسّسات القطاع العام... كلّها عوامل قد تدفع إلى فرض مثل هذه العقوبات على الكيان ككلّ.
- إدراج لبنان على اللائحة الرّمادية أو حتّى السّوداء لـ "مجموعة العمل المالي"، بسبب عدم وضع ضوابط لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
من شأن هذه العقوبات فصل لبنان حرفياً عن النّظام المالي العالمي، وتعرّض المصارف اللبنانية لفسخ علاقاتها مع المصارف المراسلة. وبالتّالي عجز المستوردين عن فتح الاعتمادات المصرفيّة، ومنع إدخال المعدّات التكنولوجية والتّضييق على استيراد المواد الحيوية، وبالتّالي عزل لبنان على غرار ما يحصل مع سوريا.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي تتطلّب قوانين شاملة
كتاب مفتوح إلى الحاكم
تجنّب المرحلة الثّالثة من الأزمة ما زال ممكناً، خصوصاً في ظلّ تلمّس تجمّع رجال وسيدات الأعمال إصرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري على المضيّ قدماً بالإصلاحات النقدية. وذلك عقب تسليمه كتاباً مفتوحاً عرض فيه التجمّع رؤيته العريضة للإصلاحات المطلوبة. وبحسب كتاب التجمّع فإنّ "القرار الحاسم برفض تمويل الدّولة اللبنانية، سواءً من خلال طبع العملة الوطنية، أم من خلال استخدام ما تبقّى من احتياطيات العمولات الأجنبية (وهي للمودعين)، هو الخطوة الأولى الأساسية". ولضمان استمراره "على السّلطة تنفيذ الإصلاحات الضرورية، خاصّةً في ما يتعلّق بالحوكمة السّليمة لإدارة المؤسّسات العامّة، وبحجم القطاع العام الذي تسبّب بشلّ الاقتصاد والماليّة العامّة على مدى العقود الماضية". في هذا السياق، يشدّد التجمّع "على ضرورة تقليص حجم القطاع العام وزيادة إنتاجيته والاحتفاظ بالموظّفين المؤهّلين فقط. كما وينبغي تطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الصادر في عام 2017 بشكل كامل. فهذا القانون يسمح للقطاع الخاص بإدارة أصول الدّولة وفقًا لمؤشّرات أداء واضحة، في حين تبقى الملكيّة محصورة بالدولة. كذلك الأمر، من الضرورة ضبط الحدود، ومعالجة مسألة تزوير الفواتير في المرافئ، كما والقضاء على الشّركات الوهميّة والغير الشرعية والتّهرب الضريبي، واستئناف العمل في الدوائر العقارية وفي هيئة إدارة السير والآليات والمركبات. هذه التدابير ستعزّز عائدات الدولة، إضافةً إلى اعتماد وسائل رقمية لمكافحة الفساد".
أمّا في ما يتعلّق بالشقّ النّقدي فيرى التجمّع أنّ "إعادة هيكلة القطاع المصرفي تتطلّب قوانين شاملة. وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل من خلال اعتماد حلول متفرّقة أو من خلال اتّباع قرارات مصرف لبنان وحده. لذلك، يجب إيجاد حلّ سريع لمسألة الودائع، فالوقت هو العامل الأساسي في ما يتعلّق بإمكانية استرجاع نسبةٍ أكبر من الودائع. وإنّ التأخير والفشل في إقرار قانون "الكابيتال كونترول" وضع القطاع المصرفي في إطار غير قانوني وأدّى إلى تبديدٍ غير قانوني وانتقائي لمليارات الدّولارات في النّظام المصرفي. لذلك، فمن الضروري إصدار قانون مناسب بشكل عاجل يحافظ على حرّيّة تحويل الأموال والاقتصاد الحرّ المنصوص فيه بالدستور". وشدّد التجمّع على أنّ "الاتّفاق مع صندوق النقد الدّولي هو السّبيل لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي ولتطبيق الإصلاحات المطلوبة التي طال انتظارها، إضافةً إلى إعادة هيكلة النظام المصرفي".
للمرّة "الألف" يناشد القطاع الخاص اللبناني أصحاب القرار تحمّل مسؤولياتهم الوطنية والمبادرة فوراً إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فهذه الخطوة تعتبر أساسية لفتح كوّة في جدار الإصلاحات، إذ من دون انتظام الحياة السياسية لا يمكن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية النقدية والمالية. فهل من يسمع؟