تعويم سفينة المركزي من جديد مهمّة قد تكون بنظر البعض صعبة، إنّما ليست مستحيلة إن ترافقت مع التوجيهات السليمة وتجنّب تيارات السلطة السياسية
يستمرّ حاكم مصرف لبنان بالوكالة وسيم منصوري، مع نوّابه الثلاثة، بمحاولات إخراج سفينة "المركزي" من قناة السياسة النقدية الضيّقة التي غرقت فيها طويلاً. فالقيادة المتهوّرة للإدارة السّابقة في مضيق تثبيت سعر الصرف وإقراض الدولة من دون حسيب أو رقيب، تسبّب بتآكل ضفاف الاقتصاد الهشّة، وسَحب وحوّل المخاطر عن جوانب القناة إلى وسطها. فأضحت مياه الاقتصاد ضحلة، وأصبحت المناورات أكثر كلفة. تعويم سفينة المركزي من جديد مهمّة قد تكون بنظر البعض صعبة، إنّما ليست مستحيلة إن ترافقت مع التوجيهات السليمة وتجنّب تيارات السلطة السياسية.
قد يقول قائل لم يمضِ على وجود نوّاب الحاكم في "أصل" سدّة الحاكمية، "إلّا البارحة العصر"، للدلالة على صعوبة الحُكم على صوابيّة الأداء في هذا الوقت القليل، وهذا صحيح. إنّما الأصحّ أنّ "الرسالة" التي وجهوها لكلّ الأطراف السياسية "تُقرأ من عنوانها": "مصرف لبنان ليس جمعيّة خيريّة. ومهمّته ثبات القَطع وليس إنقاذ المؤسسات العامّة الفاشلة". وهذه المعادلة لو اتّبعت منذ التسعينيات، بعيداً عن رهانات الإصلاح العقيمة، لما كنّا علقنا في وُحول السياسات النقدية والمالية التي أفلست البلاد والعباد.
"الرسالة" التي وجهوها لكلّ الأطراف السياسية "تُقرأ من عنوانها": "مصرف لبنان ليس جمعيّة خيريّة. ومهمّته ثبات القَطع وليس إنقاذ المؤسسات العامّة الفاشلة".
ما الذي تغيّر في سياسة المركزي منذ الأول من آب ولغاية اليوم؟
- إيقاف العمل بمنصة SAYRAFA "المنفعيّة". فهذه المنصّة التي أتاحت بيع الدولار للموظّفين وعملاء المصارف وأصحاب الأعمال بسعر يقلّ عن سعر السّوق السوّداء، شكّلت على مدار العامين المنصرمين، وتحديداً منذ أيار 2021، أداة للمضاربة. وقد حقّق من خلالها بعض المتنفّذين أموالاً طائلة على حساب خزينة الدولة والمجتمع. وقد قدّر البنك الدولي الخسائر على المنصّة نتيجة تدخّل مصرف لبنان بائعاً للدولار وشارياً لليرة بحجّة تخفيض سعر الصرف، بنحو 2.5 مليار دولار لغاية شهر شباط من العام الحالي. في حين أنّ الخسائر قد تكون وصلت إلى حدود 4 مليارات دولار، إذا أخذنا في الحسبان مجموع الأموال المتداولة على المنصّة والتي فاقت 23 مليار دولار في ظرف أقلّ من عامين.
- إيقاف العمل بالتّعميم 161. وهو التّعميم الذي يسمح لموظّفي القطاع العام (يقدّر عددهم بحوالي 380 ألف موظف، 250 الفاً في الخدمة الفعلية و130 ألف متقاعد) تحويل رواتبهم مباشرة من الليرة إلى الدولار على سعر صرف المنصّة. ونظراً لكون السّعر على المنصّة أقل من سعر السوق السوداء، كان يحقّق الموظفون زيادة في مدخولهم تتراوح بين 10 و30 في المئة، تبعاً لاختلاف سعر الصّرف. إلّا أنّه في المقابل، فإنّ مجمل رواتب الموظّفين في القطاع العام لا تتجاوز شهريّاً 85 مليون دولار. في حين أنّ متوسّط التداول اليومي على المنصّة وصل منذ 22 آذار ولغاية نهاية تموز إلى 170 مليون دولار. ما يعني أنّ الموظفين كانوا يستفيدون من الفُتات، في حين أنّ الأرباح كانت تذهب إلى جيوب المضاربين.
- التوقّف عن إقراض الدولة. فقد رفض نوّاب الحاكم تلبية طلب السّلطة السياسية باقتراض 1.2 مليار دولار تُسدّد خلال 18 شهراً. وقد اشترطوا لذلك سلّة متكاملة من الإصلاحات التي تضمن إعادة المبلغ في حال تحقيقها. ومنها إقرار موازنات متوازنة للعامين 2023 و2024، والكابيتال كونترول، والانتظام المالي وإعادة الهيكلة... ونظراً لعجز السّلطة السياسية عن إقرار الإصلاحات، وهذا ما تثبّت في الفشل في عقد جلسة نيابية في السابع عشر من هذا الشهر، فإنّ المصرف لن يقرض الدّولة أيّ ليرة، خصوصاً أنّ هذه الأموال ستدفع من التوظيفات الإلزامية، أي ممّا تبقّى من حقوق للمودعين في مصرف لبنان، وليس من احتياطي المركزي بالعملة الصّعبة.
- وقف تحويل الليرات الناتجة عن جباية فواتير الكهرباء إلى دولار. فعلى الرّغم من تعهّد الحاكم السّابق لمصرف لبنان رياض سلامة بتحويل الجباية على سعر منصة صيرفة + 20 في المئة إلى دولار من أجل شراء الفيول، فإنّ القرار ليس ملزماً لنوّاب الحاكم. وبحسب مصادر مطّلعة فإنّه "ليس من اختصاص المركزي القيام بعمليّات الصّرافة، خصوصاً إن كانت ستؤثّر سلباً على سعر الصّرف، وذلك تبعاً للمادة 75 من قانون النّقد والتسليف. وعليه يتوجّب على السلطة السياسية أن تجد المخرج لهذا الموضوع، كأن تطلب تسعير الفواتير بالدولار أو تسمح بشراء الدولار من السوق مباشرة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان".
- حرمان المصارف التجارية من عمولة الـ 5 في المئة. والتي كانت تتقاضاها لقاء تنفيذ عمليّات صيرفة، حيث من المقدّر أن تكون حقّقت منها ربحاً وصل إلى أكثر من مليار دولار خلال أقلّ من عامين. وهو ما سيدفعها مرغمة إلى تسريع إعادة الهيكلة للاستمرار في السوق، أو الخروج منه في حال أثبتت فشلها.
نتائج سياسية وليس فقط نقدية
أمام كلّ هذه المعطيات كتب النائب ميشال ضاهر على منصة X: "الحاكم وسيم منصوري يمارس دوره بكثير من الحرفية والمسؤولية". مضيفاً أنّ "إقفال "حنفية" المصرف المركزي في وجه هذه الطبقة السياسية التي استسهلت مدّ اليد على أموال المودعين يضعها أمام مسؤولياتها. عسى أن يساعد إقفال هذه "الحنفية" بنزول الجميع عن الشجرة والذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهورية، خوفاً من الانهيار الشامل".
الصمود القلق
صمود الحاكم بالوكالة مع نوّابه الثلاثة في موقفهم المبدئي من عدم إقراض الدّولة تحديداً، "قد لا يطول كثيراً"، من وجهة نظر النّائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان العياش. فاشتراطهم عدم تسليف الدّولة إلّا بقانون، يعني برأي العياش "حرصهم على إضفاء الشّرعية على قرارهم، بغضّ النظر عن فعالية الاجراءات لحماية الوضعين الاقتصادي والنقدي. وذلك على غرار الطبيب الذي يطلب من ذوي المريض تعهّداً عن عدم تحميله المسؤولية في حال الفشل في إجراء العمليّة الجراحية". أكثر من ذلك يرى العياش أنّه "يستحيل على المصرف المركزي عدم الاستجابة لطلبات السّلطة السياسية في مواضيع محدّدة، كأن تطلب تأمين رواتب ومخصصات موظّفي القطاع العام والقوى الأمنية في حال عجز الخزينة عن تأمينها، أو كأن تطلب السّلطة من المركزي التدخّل في لجم سعر الصرف في حال فلتانه، وهو أمر مرجّح تبعاً للظروف الراهنة، من خلال بيع الدولار، وحتّى لو كان من التوظيفات. نظراً لما يمثّله انهيار سعر الصرف من خطر على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأمن المعيشي للمواطن". وفي جميع الحالات يعتبر العياش أنّه "لا يوجد مصرف مركزي حول العالم يمتنع بالمطلق عن التدخّل في مثل هذه الحالات". وعليه "سيتوجب على الحاكم بالوكالة ونوّابه إمّا الرّضوخ لطلبات السلطة السياسية، وإمّا الاستقالة".
لا يُحسَد الحاكم بالوكالة مع نوابه الثلاثة على موقفهم. فالاستعصاء عن الإصلاح الذي لا تنفكّ السلطة السياسية عن إظهاره، واستمرار الضّغط على ميزان المدفوعات، والعجز المتعاظم في حساب الخزينة... عوامل من المرجّح أنّها سترخي بثقلها على سعر الصّرف في القادم من الأيام، وقد تهدّد بتضييع كلّ الجهود التي بُذلت لتأمين حدّ أدنى من الاستقلالية في عمل المصرف المركزي.