من الواضح أنّ التّقرير يعترف بأنّه لا يمتلك معلومات كافية، وبالتالي هناك حاجة لتدقيق إضافي في حسابات المركزي خصوصًا أنّ هناك حاكم جديد يُمكنه السماح، بتوقيع بسيط منه، لشركة ألفاريز آند مارسال بأخذ المعلومات اللازمة.
صدر تقرير شركة ألفاريز آند مارسال الذي يحوي على النتائج الأوّلية للتدقيق الذي قامت به الشّركة في حسابات مصرف لبنان في الفترة المُمتدّة من 2015 حتى العام 2020. التّقرير المؤلّف من أكثر من 300 صفحة هو تقرير تقني بهيكلية تتبع المهام المطلوبة من الشركة من قبل وزارة المال. وتطال هذه المهام بحسب ما جاء في التقرير نفسه:
أولًا – التّحقّق من أنّ الأموال المتعلّقة بالمعاملات الماليّة التي تمّت على مستوى مصرف لبنان أو من خلال الحسابات لدى مصرف لبنان خلال السنوات الخمس الماضية قد تمّ استخدامها للأغراض المقصودة ؛
ثانيًا – التأكّد ما إذا كانت أسعار أو قيم المعاملات المالية مبالغ فيها بشكل غير ملائم أو غير مؤكّدة ؛
ثالثًا – التأكّد ما إذا كانت المدفوعات قد تمّ دفعها لشركات وهميّة أو خدمت بطريقة أخرى أيّ غرض غير مناسب ؛
رابعًا - تقييم ومراجعة وتحليل أيّ نقاط غير طبيعية محتملة قد تدلّ على وجود خطط غير مناسبة لإعداد التقارير الماليّة أو سوء التّخصيص أو الاختلاس أو الاستخدام غير الملائم للأموال ؛
خامسًا – تقييم ومراجعة وتحليل أيّ نفقات والتزامات استخدمت خارج نطاق عمل المصرف المركزي ؛
سادسًا – التأكّد من كيفية تراكم الأصول والمطلوبات في الميزانية العمومية لمصرف لبنان وتحرّكها بمرور الوقت ؛
سابعًا – التأكّد من تركيبة احتياطيات ومطلوبات مصرف لبنان من العملات الأجنبية ؛
ثامنًا – دراسة الشروط المحيطة بإصدارات السندات الحكومية وأذون الخزانة واكتتاب مصرف لبنان في هذه الأدوات ؛
تاسعًا – التّدقيق في معاملات الهندسة المالية التي أجريت في السنوات الخمس الماضية ؛
عاشرًا – إجراء تحليل مفصّل للحركة في ودائع البنوك التجارية بمرور الوقت على مستوى العميل والمجموعة خاصّة خلال فترة عمليات الهندسة المالية ؛
أحد عشر – تحديد المصارف التجارية الرئيسية التي تمتلك ديون سيادية وصحّة أرصدتها ذات الصلة المودعة لدى مصرف لبنان ؛
ثاني عشر – تحليل طبيعة التّقارير عن الودائع والقروض من قبل المؤسّسات المالية إلى مصرف لبنان والحوكمة المحيطة.
الشّركة قامت بالعمل خلال 79 يوماً على المعلومات التي أعطيت لها في مبنى وزارة المال بعد رفض المصرف المركزي السّماح لها بالولوج إلى المبنى
الشّركة قامت بالعمل خلال 79 يوماً على المعلومات التي أعطيت لها في مبنى وزارة المال بعد رفض المصرف المركزي السّماح لها بالولوج إلى المبنى. ويقول التّقرير أنّ العديد من المعلومات لم يتمّ تسليمها لها من قبل المركزي بحجّة السرّية المصرفية ولعل الأهمّ بالنسبة للشركة - بحسب قراءتنا للتّقرير – تتمحور حول ثلاثة نقاط :
أولاً – المعلومات عن المستفيدين من التحاويل التي تمّ محوها من إشعارات السويفت ؛
ثانيًا – المعلومات عن تفاصيل الكتابات المحاسبية التي تطال رسوم سكّ العملة أو ما يُعرف بالـ seigniorage ؛
ثالثًا – المعلومات التي تطال كيفيّة أخذ القرار في المركزي وعمل الوحدات.
التّقرير يُدين بشكل مباشر وغير مباشر الجهات التالية: حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة، نوّاب الحاكم السابقين، مفوّض الحكومة في المجلس المركزي، وزارة المال وشركات التّدقيق. بالطّبع المقالات التي طالت هذا الموضوع ركّزت بالدّرجة الأولى على مُخالفات سلامة خلال حاكميته، والبارحة اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بكيفية صرف الأموال من قبل الدّولة ومن أهدر أموال المودعين وغيرها. وهذا الاستخدام – كلٌّ من وجهة نظره – سيدوم طالما لم يستلم القضاء هذا الملف. وبالحديث عن القضاء، المُلفت أنّ شركة ألفاريز آند مارسال تطلب موافقتها أوّلًا في حال أرادت وزارة المال استخدام التقرير في المحاكم.
العديد من المخالفات تمّ ذكرها في تقرير ألفاريز آند مارسال تطال حاكم المركزي السابق رياض سلامة، ولعلّ الكلمة الفصل في هذا الأمر هي للقضاء الذي سيطلب حُكمًا تقاريرًا إضافية من الشّركة. وبما أنّ نائب الحاكم الأول وسيم منصوري أصبح الآن القائم بأعمال الحاكم، فمن السهل السّماح لشركة ألفاريز آند مارسال الحصول على المعلومات التي تنقصها لكي تتضح الصّورة. إلّا أنّه وباعتقادنا هناك نقطتين جديتين يتوجّب الردّ عليهما: النّقطة الأولى تطال مصدر التحاويل لشركة فوري وإذا ما كان مصدرها المال العام أم لا، والثّانية تطال كيفية أخذ قرار إقراض الدوّلة.
التّقرير لم يكن ليّنًا مع مفوّض الحكومة حيث أظهر التّقرير أن لا وجود لتقارير تمّ رفعها إلى وزراء المال عن عمل المصرف المركزي وطالب بتعيين أصحاب كفاءة في هذا المنصب. وإذ تحدّث التّقرير عن تسلّط سلامة في المجلس المركزي وعدم إعطاء صورة كاملة لأعضاء المجلس المركزي (بناءً على محاضر الاجتماعات كما ورد في التقرير)، استخدم التقرير لغةّ ديبلوماسية لإظهار ضعف نوّاب الحاكم أمام الحاكم وتوقيعهم على محاضر الاجتماعات مع العلم أنّ صوت الحاكم في المجلس موازي لصوت أيّ عضو. أيضًا أظهر التّقرير التقصير من قبل وزراء المال حول الرقابة المنصوص عليها في قانون النّقد والتّسليف والذي مرّ أيضًا بشكل ديبلوماسي.
التّقرير، كما هو، يوجّه أصابع الاتهام بالدّرجة الأولى إلى حاكم المصرف المركزي من خلال الهندسات الماليّة التي قدّر كلفتها بـ 76 مليار دولار أميركي. هذا الرّقم يُثير الإرتياب ويطرح السؤال عن مصداقية هذا الرقم سواء كان خطأ مطبعي أو خطأ حسابي، فحجم الهندسة المالية وصل إلى 12 مليار دولار أميركي (وقد تكون أكثر بقليل بحكم الهندسات الصغيرة اللاحقة) مع كلفة قُدّرت بـ 40% من حجم الهندسة. فكيف لهذه الهندسات أن تصل كلفتها إلى 115 تريليون (76 مليار دولار أميركي)؟ هل هي كتلة نقدية م1 أو م2 أو م3؟ وكيف تمّ تمويلها؟ ما يُزيد شكوكنا بهذا الرقم هو وجود خطأ في التقرير على الصفحة 14 حيث اعتبرت ألفاريز أنّ سعر الصّرف في نهاية العام 2020 بلغ 100 ألف ليرة لبنانية لكلّ دولار في حين أنّ الحقيقة هي أنّ السّعر كان 8400 ليرة لبنانية!
أيضًا وجّه التقرير الاتّهام إلى حاكم المركزي السّابق بـ "إخفاء الخسائر" عبر اعتماده على معايير حسابية غير اعتيادية تسمح بـ "ترحيل الخسائر" إلى وقت مُستقبلي بحكم ضمان مداخيل مُستقبلية من باب طبع العملة (وهو ما انتقده التقرير). هذه النّوع من المحاسبة يُستخدم في ظروف غير اعتيادية، والمعلومات المتوافرة تُشير إلى أنّ المصرف المركزي راسل آنذاك صندوق النقد الدولي ليطلب منه استشارة عن الموضوع. فلماذا لا يتمّ سؤال صندوق النّقد عن هذا الموضوع؟
إلّا أنّ كلّ ما ورد لا يُجيب على السؤال أين ذهبت أموال المودعين البالغة حتّى الساعة 92 مليار دولار أميركي بحسب خطّة الحكومة؟ بالطبع التقرير يتحدّث عن فجوة في حسابات المركزي بقيمة 50 مليار دولار أميركي ويتحدّث عن تحاويل للقطاع العام بقيمة 47.8 مليار دولار أميركي أي ما يوازي الفجّوة. أين توجد إذن أموال المودعين الباقية (92-47.8 = 44.2 مليار دولار أميركي)؟
من الواضح أنّ التّقرير يعترف بأنّه لا يمتلك معلومات كافية، وبالتالي هناك حاجة لتدقيق إضافي في حسابات المركزي خصوصًا أنّ هناك حاكم جديد يُمكنه السماح، بتوقيع بسيط منه، لشركة ألفاريز آند مارسال بأخذ المعلومات اللازمة. إلّا أنّ السؤال الأساسي يبقى عن مصير الأموال التي أقرضت إلى القطاع العام والتي بلغت 47.8 مليار دولار أميركي على فترة أحد عشر عامًا.
لعلّ من أهمّ نتائج التّدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي هو الحاجة إلى التّدقيق في حسابات الدولة اللبنانية. إذ كيف يُعقل أن تُنفق الدولة 47.8 مليار دولار أميركي بالعملة الصعبة على فترة 11 سنة أي ما يُعادل 4.35 مليار دولار أميركي سنويًا؟ أين صُرفت هذه الأموال، وهي من أموال المودعين؟
من الواضح أنّ الإدارة المالية للدّولة لم تكن يومًا بخير وبالتّالي فإنّ فتح هذا الملفّ – أي التدقيق في حسابات الدولة – سيؤدّي إلى تعقيدات سياسية كبيرة. وإذا كان المسار الطبيعي الذي يتوجّب على الملفّ سلوكه هو التوجّه نحو التوسّع بتدقيق حسابات المركزي مع توسيع رقعة التدقيق لتشمل حسابات الدّولة، وهو ما يتطلّب غطاء تشريعي وقرار حكومي لهذا الأمر، إلّا أنّه ومع الانقسام الكبير والانغماس الواضح لبعض القوى في الإنفاق غير المبرّر سيكون من الصّعب جدّاً الوصول إلى نتيجة اللهمّ إلّا تحميل سلامة كامل المسؤولية وهو ما لن يكون منطقيّاً لأنّ التقرير أشار إلى أنّ هذه الأموال ذهبت إلى خزينة الدّولة.