عمليّاً المؤشّرات القائمة لا توحي بأنّ الاتجاه التصاعدي لأسعار النّفط سيتغيّر، لا بل على العكس من المتوقّع أن يتمّ تمديد خفض الإنتاج السعودي إلى شهر أيلول، وحتى أبعد من شهر أيلول بحسب تصريح وزارة الطّاقة السّعودي.

تشهد أسعار النّفط العالمية ارتفاعاً في الأسعار وذلك منذ أواخر شهر حزيران الماضي. ففي 27 حزيران، سجّل برميل الخام الأميركي 66.4 دولار أميركي ليبدأ رحلته التّصاعديّة ويصل إلى 82.79 دولار أميركي في أسواق العقود الآجلة، أي بزيادة 24.7% على الفترة المذكورة (13.7% في شهر تموز). الارتفاع في الأسعار أسبابه عديدة ولعلّ على رأسها عاملين أساسيين: انخفاض الطّلب العالميّ كما تُظهره أرقام الصّادرات الصينية والتي انخفضت خلال شهر حزيران بأكثر من 3% منذ ثلاثة أعوام، والثّاني خفض الانتاج السّعودي كردّة فعل على انخفاض الطلب العالمي.

عمليّاً المؤشّرات القائمة لا توحي بأنّ الاتجاه التصاعدي لأسعار النّفط سيتغيّر، لا بل على العكس من المتوقّع أن يتمّ تمديد خفض الإنتاج السعودي إلى شهر أيلول، وحتى أبعد من شهر أيلول بحسب تصريح وزارة الطّاقة السّعودي. والأصعب في الأمر أنّ التشدّد في سياسة الخفض مطروح من قبل المملكة العربية السعودية بحسب الإطار الجيوسياسي والاقتصادي العالميّ، أضف إلى ذلك الصّراعات الجيوسياسية القائمة حاليًا في العالم خصوصًا بين الولايات المُتحدة الأميركية والصين (في شهر حزيران انخفضت الصادرات الصينية إلى الولايات المُتحدة الأميركية بأكثر من 12%)، وهو ما قد ينسحب سلبًا على الإطار الاقتصادي العالمي من باب التبادل التجاري.

الجدير ذكره أنّ الصراعات الجيوسياسية والحرب القائمة في أوكرانيا تجعل الاقتصاد رهينة السياسة، على مثال ما حصل في النّيجر التي تستورد منها فرنسا الأورانيوم لمعاملها الكهربائية (أكثر من 70% من كهرباء فرنسا تأتي من المعامل النووية) وهو ما يعني ارتفاع فاتورة الكهرباء على الاقتصاد الفرنسي وإضعاف الاقتصاد وبالتّالي قدرات فرنسا الجيوسياسية. ما سبق ذكره يُظهر الآلية التي تستخدمها الدّول في حروبها الجيوسياسية عبر استخدامها الاقتصاد كأداة حرب ناعمة.

موازنة 2023.. المنهجيّة الخاطئة

ممّا لا شكّ فيه أنّ موازنة العام 2023 التي تقوم بدراستها الحكومة اللبنانية حاليًا تواجه العديد من الصعوبات وعلى رأسها غياب الإصلاحات وتفشّي التّهريب الجمركي والتهرّب الضريبي وغياب الإصلاحات الذي يحدّ من قدرة الاقتصاد على النّمو وبالتّالي الإيرادات. أضف إلى ذلك التوجّه إلى تحرير سعر الصّرف والذي إذا حصل يجعل الحكومة مُلزمة إرسال قوانين إلى المجلس النيابي عند كل آخر شهر لدفع الأجور وغيرها من النّفقات العامة.

إلّا أنّ ارتفاع أسعار النّفط عالميًا، له وقع خاص ومباشر على موازنة العام 2023 من باب الإنفاق على المحروقات وعلى أجور القطاع العام (خصوصًا بدل النقل). فارتفاع الأسعار يجعل إنفاق الحكومة على استهلاكها من المحروقات أعلى، كما أنّ كلفة تشغيل المؤسسات العامّة والوزارات التي تحتاج إلى المحروقات للعمل سترتفع حكمًا، وهو ما يعني أنّ زيادة الإنفاق حتّمية. وبفرضية أنّ الحكومة استطاعت تحصيل الإيرادات كما تتوقّعها في الموازنة، وهو أمر مشكوك به بسبب الفلتان المالي وغياب السيادة الماليّة للدّولة، فإنّ العجز سيرتفع إلى مستويات أعلى ممّا هو منصوص عليه في هذه الموازنة مع ما يرافق ذلك من إشكالية تمويل هذا العجز خصوصًا أنّ المصرف المركزي يرفض إقراض الدّولة دولارات من دون قانون، وإنّ الإقتراض بالليرة اللبنانية سيعني حكمًا ارتفاع سعر الصّرف وبالتّالي زيادة الإنفاق وزيادة العجز.

إذًا إنّها حلقة مُفرغة دخلت فيه الحكومة بسبب المنهجية الخاطئة التي تتبعها والتي تُظهر محدودية موازنة 2023 التي ستُصبح موازنة صورية لإرضاء صندوق النّقد الدّولي أكثر منها موازنة تحلّ مشاكل الاقتصاد والماليّة العامّة والمواطنين وبالتّحديد الإنفاق على أجور وتقديمات وحوافز القطاع العام وعلى القطاع الصحّي.

ارتفاع أسعار النّفط عالميًا، له وقع خاص ومباشر على موازنة العام 2023 من باب الإنفاق على المحروقات وعلى أجور القطاع العام 

المواطن هو من سيدّفع الثمن

في الواقع، لارتفاع أسعار النفط عالميًا تداعيات مباشرة وغير مباشرة على المواطن، والتي ستُعقّد من حياته اليومية. فارتفاع أسعار النّفط سيرفع من كلفة المحروقات وهو ما سيرفع كلفة التنقّل، وكلفة الأقساط المدرسيّة وأسعار السّلع والبضائع الغذائية وأسعار الأدوية والتّدفئة وكلّ أسعار الخدمات العامّة والخاصة.

ولعلّ الأقساط المدرسيّة تأتي في المراتب الأولى في سُلّم أولويات المواطن الذي لا يعرف حتّى الساعة الفاتورة الحقيقية التي سيدفعها للمدارس والتي – من دون ارتفاع أسعار النفط – ستكون مُرتفعة. فكيف الحال إذا ارتفعت أسعار النفط إلى حدود الـ 86 دولار أميركي للبرميل الواحد في كانون الأول، وإلى حدود الـ 100 دولار أميركي في النّصف الثّاني من العام 2024، كما يتوقّعه مصرف غولدمان ساكس.

السّلع والمواد الغذائية هي من الاهتمامات الأساسية بالنّسبة للمواطن. وارتفاع أسعار النّفط العالمية سيرفع من كلفة إنتاجها ومن كلفة نقلها إلى لبنان، أضف إلى ذلك الارتفاعات "المعهودة" للتجّار اللبنانيين، كل هذا سيرفع من فاتورة الأكل وهو ما سيدفع بالكثير من العائلات إلى خفض كمّية ونوعية مشترياتهم الغذائية بما يُعطي الحقّ للبرنامج الغذائي العالمي للأمم المُتحدة الذي حذّر من أنّ لبنان على شفير دخول المناطق الساخنة من ناحية الغذاء.

وإذا ما أضفّنا إلى كلّ هذا مُشكلة وقف اتفاقية نقل الحبوب من أوكرانيا الشهر الماضي مع ما لذلك من تداعيات على استيراد لبنان من القمح – أي بمعنى آخر نقص القمح في السّوق، فإنّ السلعة الأساسية التي يتغذّى عليها الفقراء (الخبز) سيرتفع سعرها أكثر نتيجة ارتفاع أسعار مكوناتها، تصنيعها ونقلها.

المُشكلة الثالثة التي سيواجهها المواطن تتعلّق بالتّدفئة خلال فصل الشّتاء، إذ أنّ ارتفاع أسعار النّفط سيرفع حكمًا سعر المازوت (حتى ولو كان مازوت مُهرّب)، وهو ما سيدفع المواطنين خصوصًا في الجبال إلى استبدال المازوت بقطع الأشجار.

آن الآوان لسياسة إقتصادية محورها المواطن

مع كلّ ما تقدّم نرى أنّ السياسة المُتبعة حاليًا من الحكومة لا تستطيع مُعالجة المشاكل النّاتجة عن ارتفاع أسعار النّفط. هذا العامل الخارجي لا يخضع لإرادة الحكومة، لكنّه لا يعُطيها الحقّ بالتّذرّع بعدم قدرتها على حلّ المُشكلة وذلك بحكم المنهجية الخاطئة المُتّبعة.

السياسة الإقتصادية الواجب إتباعها من قبل الحكومة لها تشعّبات كثيرة وتطال أقلّه أكثر من 500 إجراء مطلوب من الحكومة القيام بها. وإذا كان إدراج هذه الإجراءات في هذا المقال أمر غير مُمكن، إلّا أنّ الإجراءات الأساسية يُمكن تلخيصها في عناوين جامعة على الشّكل التّالي:

- إجراءات الاستقرار الاقتصادي: وتتضمّن العديد من الإجراءات الواجب اتّخاذها سريعًا لضمان استقرار الاقتصاد، نذكر منها، لجم عجز ميزان المدفوعات، محاربة التّضخّم، إيرادات الخزينة، إجراءات اجتماعية...

- إجراءات هيكلية: وتتضمّن إعادة هيكلة الاقتصاد، السّياسة النّقديّة، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، مُشكلة الودائع، الدّين العام، إعادة هيكلة القطاع العام، مُشكلة الكهرباء، البنى التحتية، مكننة الحكومة والمؤسّسات العامة، البعد الاجتماعي...


بالطّبع لا أحد يتوقّع أن يتمّ القيام بهذه الإجراءات في وقت قريب خصوصًا أنّ القرار الاقتصادي أصبح رهينة القرار السياسي بامتياز، إلّا أنّ المفروض على الحكومة البدء ببعض الإجراءات الهادفة إلى تأمين استقرار الاقتصاد وخصوصًا الأسعار، تحت طائلة تحويل الشعب اللبناني إلى أن يصبح في مصاف الشّعوب المُتخلّفة.