إلغاء الحجّة، سيفتح الباب من دون شكّ، للتعيينات السياسية وغير المناسبة في المناصب المهنيّة. إذ عبّر الحقوقيّون عن خشيتهم، من اتّخاذ رؤساء الحكومة والوزراء، قرارات تعسّفية، دون حسيب أو رقيب.
الخطر الأكبر على دولة إسرائيل ليس من الخارج بل من داخلها. يوماً بعد يوم يتدحرج الكيان نحو انقسام سياسيّ حاّد، هو الأكبر منذ تأسيسه. دخلت إسرائيل مرحلة خطيرة عندما بادرت الحكومة اليمينية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى تمرير "لغم متفجّر" في خطّة التعديلات القانونية المثيرة للجدل، التي تريد القيام بها في سلك القضاء.
هذا البند، هو قانون إلغاء حجّة المعقولية الذي تستخدمه المحكمة العليا في إسرائيل لمواجهة قوانين يسنّها الكنيست وتتنافى مع أسس الديمقراطية أو تتعارض مع قانون من قوانين الأساس، لغياب وجود دستور مكتوب في إسرائيل. وتستخدمه المحكمة العليا أيضًا عندما يقدّم وزير أو موظّف كبير أو حتى موظّف صغير تفسيراً للقانون لا يتلاءم مع المعقولية ومع تفسير المحكمة العليا للقانون، وتستخدمه أيضًا ضدّ أيّ رئيس سلطة محلّيّة يفسّر القوانين على هواه عندها يقدّم المواطن التماسًا بحجّة أنّ هذا التفسير غير معقول.
بإلغاء حجّة "المعقولية" تحاول الحكومة منع المحكمة العليا من التدخّل في قراراتها، مثل تعيين وزير فاسد. كما حدث مع زعيم حركة " شاس" المتطرّفة لليهود الشرقيين ارييه درعي المدان في المحكمة التي ألغت تعيينه كوزير للداخلية والصّحّة. هذا يعني أنّه في حال إلغاء ذريعة عدم المعقولية، المحكمة لن تستطيع التدخّل في أيّ قرارات حكومية حتّى لو لم تكن منطقية، وتالياً يصير بإمكان الحكومة التّصرّف دون رقابة من القضاء أو رقابة. وهذا يعني أموراً كثيرة في الحياة السياسية والقضائية الإسرائيلية. هذا ما جعل الجدل في شانه يتطوّر من نقاش دستوري بين السلطة القضائية من جهة، والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من جهة أخرى، إلى نقاش سياسي، بين أحزاب اليمين واليسار وكلّ الشرائح الاسرائيلية. اليمين يريد وضع حدّ لصلاحيات القاضي، ويجعله يلتزم بنصّ القانون، مثلما شرّعه السياسيون في البرلمان، أو أصدروه في الحكومة. لا أن يستنبط ويجتهد ويقيس ويُفسّر. فهذه أمور من صلاحيات السياسي، والقاضي وظيفته إصدار الأحكام القضائية فقط، وفق نصّ القانون فقط. خصوصًا وأنّ القانون لم يُخوّله بذلك. أمّا اليسار، فيرفض هذه الوظيفة للقاضي، ويقول إنّه ليس مجرد "رجلٍ آلي"، ينفّذ ما يُصدره السياسيون. محذرين من تسييس القضاء والحدّ من استقلاليته، في نظام تهيمن فيه السّلطة التنفيذية على التشريعية. لتُعتبر السلطة القضائية، آخر خطّ دفاع عن الفرد، أمام الغالبية. ثمّ إنّ من وظائف المحكمة، هي فرض رقابة على الحكومة، لضمان عدم احتكار القوّة، بيد شخص أو سلطة.
وعادة ما يشتكي السياسيون من اليمين الإسرائيلي، بأنّ المحكمة تمنعهم عبر هذه الحجة "غير الدستورية والقانونية"، من تنفيذ سياساتهم، التي انتخبوا خصيصاً من أجلها. والديموقراطية هي حكم الشعب، "فكيف لموظفين غير منتخبين كالقضاة، أن يقرّروا للشعب ومنتخبيه، ما هو معقول وما هو غير معقول؟"، يتساءل اليمين. ليردّ اليسار أنّ الديموقراطية هي ليست حكم الغالبية فقط، بل حماية للأقلّيّة وهي ليست ورقة في صندوق، بل مجموعة من القيم.
بإلغاء حجّة "المعقولية" تحاول الحكومة منع المحكمة العليا من التدخّل في قراراتها، مثل تعيين وزير فاسد.
إلغاء الحجّة، سيفتح الباب من دون شكّ، للتعيينات السياسية وغير المناسبة في المناصب المهنيّة. إذ عبّر الحقوقيّون عن خشيتهم، من اتّخاذ رؤساء الحكومة والوزراء، قرارات تعسّفية، دون حسيب أو رقيب. ذلك أنّهم يهيمنون على السلطة التشريعية، والسّلطة القضائية ممنوعة من إبداء الرّأي.
الأكثر قلقاً هم ضبّاط الجيش الإسرائيلي، الذين يعتبرون أنّ المحكمة الإسرائيلية العليا هي الدرع الواقي للجنود والمجنّدات أولاً في وجه الدّول الغربيّة التي تعترض على شرعية السياسة في الأراضي المحتلة 1967، وكذلك في مقابل محاكم دولية تُرفع فيها دعاوى ضد إسرائيل بشبهة ارتكابها جرائم حرب في تلك الأراضي المحتلّة. هذا ما دفع مئات الطيارين وآلاف الجنود والضبّاط في الاحتياط إلى التهديد بعدم قيامهم بالخدمة العسكرية إذا استمرّت التشريعات القضائية الجديدة. ودفع هذا الأمر بالكثيرين في إسرائيل وخارجها إلى السؤال: هل إسرائيل على وشك الانزلاق إلى حربٍ أهليّة؟
في الواقع، ليس الخوف من الحرب الأهلية مجرّد نقاش سياسي، بل هو يعكس أيضاً حالة عامّة وجوّاً يسود الجمهور الإسرائيلي عموماً. ففي استطلاع أجرته صحيفة "معاريف"، أعرب 58 في المئة من الإسرائيليين عن تخوّفهم من اندلاع حرب أهلية، وقال 49 في المئة منهم إنّهم يخافون من أن تؤدّي الأزمة الداخلية إلى إلحاق الضرر بكفاءة الجيش الإسرائيلي. فهل هذا يعني فعلاً أنّ حكومة "اليمين بالكامل" دفعت إسرائيل إلى حافة التقاتل الأهلي؟
لم تصل الأمور بعد إلى حدّ الصراع المفتوح، لكنّ الوجهة التي تتّخذها التطّورات، وعجز نتنياهو عن لملمة الحلفاء حوله وتخفيف حدّة التوتّر واستماتته على الاحتفاظ بكرسي السلطة، يجعل كلّ الاحتمالات واردة بما في ذلك الانفجار العنيف.