"الصمت يعطي الإجابات... الصمت محيط والكلام نهر". كلام نطق به العالم الصوفي الكبير، جلال الدين الرومي، قبل مئات السنين. ليست هذه بالطبع مناسبة للتمعّن بالمغزى الصوفي العميق لتلك العبارات. لكن التطوّر الذي تشهده البشرية منذ بدايات القرن العشرين، على مختلف الصعد العلمية، لم يزدها، بما يثير الدهشة والروعة في آن، سوى بلاغة.
من يسأل أطبّاء الأعصاب والمعالجين النفسيين كما من يمارسون التأمّل، يسمع رأياً واحداً موحّداً: فوائد الصمت كثيرة. بدءاً من تهدئة الأفكار والاضطرابات، وتعزيز الوعي ودقة الملاحظة، والحدّ من التوتّر عبر لجم هورمونَي الكورتيزول والأدرينالين، مروراً بتحسين القدرات الإدراكية والإبداعية، ووصولاً إلى رفع منسوب جودة النوم وخفض مستوى ضغط الدم وزيادة تدفّقه إلى الدماغ. لا بل أكثر من ذلك. فقد بيّنت دراسات صادرة قبل سنوات، بما خصّ الوظائف الدماغية، أنّ الصمت لمدة تزيد عن ساعتين يومياً يؤدّي إلى تجديد خلايا الدماغ المرتبطة بخاصّتي التعلّم والذاكرة.
لكنّ البشر، بلا شك، مدمنون على الضجيج والضوضاء. وهذه من سمات عصرنا المُثقَل باختراقات التكنولوجيا النوعية ومنتجاتها المتنوّعة. فالبعض، على هذا المقلب من ركب التطوّر، يرى في الصمت إضاعة للوقت وفي الضجيج والضوضاء إفادة قصوى من قدراتنا الذاتية وتلك المندفعة نحونا تكنولوجياً.
بيد أنّ ثمة ما يدعو للتريّث هنا. فقد ربطت أبحاث، مثلاً، بين التلوّث السمعي وزيادة نسبة أمراض القلب على وجه الخصوص. إذ أورد تقرير لوكالة البيئة الأوروبية في العام 2020 أنّ الضجيج يتسبّب بالوفاة المبكرة لحوالى 12 ألف شخص سنوياً لتعرّضهم طويل الأمد للضوضاء. وينتج عنه ما يناهز 48000 ألف إصابة جديدة بأمراض القلب سنوياً في أوروبا. والمقصود هنا نوبات نقص التروية العابرة (transient ischemic attack) التي هي عبارة عن اضطراب في وظيفة الدماغ يرافقها انقطاع الدم عن جزء منه لفترة قصيرة. وفي بريطانيا وحدها، على سبيل المثال، يتمّ خسارة ما مجموعه 130 ألف سنة من حياة أناس أصحّاء بسبب التلوّث السمعي سنوياً، بحسب أرقام وكالة الأمن الصحي في المملكة المتحدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، يذهب أخصائيون نفسيون إلى نصحنا بـ"تذوّق الصمت" كسبيل للتعرّف على دواخلنا. لكن، السؤال هنا بالذات، ماذا لو كان بالإمكان الإنصات للصمت وإدراكه بما يشبه كيفية إدراكنا للأصوات على أنواعها؟ دراسة حديثة نُشرت في دورية “Proceedings of the National Academy of Sciences”، توصّلت إلى أدلّة على أنّ الدّماغ إنّما يُعالِج الصمت بشكل فعّال مُستندة إلى مجموعة من الخدع السمعية. فعلى الرّغم من أن ليس من شأن الصمت أن يصمّ الآذان، إلّا أنّ سماعه ممكن فعلياً، بحسب فريق الفلاسفة وعلماء النفس الذين شاركوا في الدراسة للكشف عن كيفية "تشويه" اللحظات التي يشوبها الصمت لتصوّر الناس لمفهوم الوقت من أصله.
الباحث المشارك في الدراسة من جامعة جونز هوبكنز، إيان فيليبس، يقول: "الحال أنّ أنواع الأوهام والتأثيرات التي تبدو فريدة من نوعها في المعالجة السمعية للصوت، نحصل عليها أيضاً بالصمت، ما يدلّل على أننا نسمع غياب الصوت حقاً". وغياب الصوت في هذا السياق ما هو إلّا الصمت بذاته. فكما تلفت الدراسة، يعالِج الدماغ الهدوء المطلق بطريقة مماثلة للصوت. وهي – أي الدراسة - إذ تمّ اللجوء فيها إلى "لعبة" الصمت الفردي والمزدوج وتطبيقها على المشاركين وسط تفعيل حالة من الضوضاء في خلفية أماكن متنوّعة، تبيّن أن الصمت المنفرد كان أطول من صمتَين منفصلين عندما طُلب من المشاركين المقارنة. وهو ما يحصل بالضبط في حالة وجود أصوات، في ما يُعرف بخدعة "واحد هو أكثر" (one is more illusion).
النتائج أظهرت الحُكم على نغمتَين إلكترونيتين بوجود فجوة أكبر بينهما عند العزف بصمت، مقارنة مع عزفهما بين أصوات أخرى، ما يشير إلى أن أدمغة المشاركين أدركت الصمت تماماً. وبعد التوصُل إلى هذه النتائج "المفاجئة"، يرمي الباحثون إلى مواصلة العمل على استكشاف مدى إمكانية سماع الناس للصمت، بغضّ النظر إن سبقه صوت أم لم يسبقه. وهذا يفتح باباً للتحقّق من نماذج عن أشياء يمكن للناس إدراكها على أنّها غائبة، وعلى رأسها حالات الاختفاء المرئي (visual disappearances) والتي لا تزال بالعادة تقع في خانة الخيال العلمي.
فوفق نيكو أورلاندي، فيلسوف العقل والعلوم المعرفية في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز وغير المشارك في التجربة، قد تشكّل دراسة الصمت منطلقاً لدراسة أنواع أخرى من حالات "الغياب"، مثل الظلال أو الثقوب. وهكذا، لا يعود الصمت مجرّد نافذة على طبيعة الواقع المادي، لا بل مصدر لتعميق فهمنا لإدراكنا الأساسي.
لكن لِنترك هذه الدراسة ونعود أشهراً قليلة إلى الوراء، حيث أشارت دراسة أخرى نُشرت في دورية (Cell) إلى أن النباتات لا تتألّم بصمت هي الأخرى. فعلى العكس، هي تصدر أصواتاً لدى تعرّضها للإجهاد بإمكان نباتات – وربما حيوانات – أخرى سماعها والتفاعل حيوياً معها. أما سبب عدم سماع البشر لتواصُل النباتات (والحيوانات)، فهو التردّدات التي تتبادل تلك الكائنات "أطراف الحديث" من خلالها والتي تقع خارج نطاق التردّدات التي يمكن للبشر رصدها.
وهذا، معطوفاً على ما سبق، إن دلّ على شيء، إنما يدّل على أنّ الصوت والصمت وجهان لـ"لغّة" تواصُلية واحدة. ثمة ما نسمعه بالمباشر. وثمّة ما نشعر به بطريقة أو بأخرى. وهذا يعيدنا إلى كلمات الرومي. فقنوات التواصُل بيننا جميعاً كانت وتبقى مفتوحة على مصراعيها، إن هي أحدثت جلبة "مسموعة" أم لم تُحدِث.