خمسين سنة بُذلت خلالها جهود أممية، ونُظمت جولات مفاوضات مضنية لحلّ الأزمة لكنّها لم تحلّ، لا بل كانت تزداد تعقيداً تبعاً لتعقّد الظروف

المشكلة القبرصيّة نزاع قديم موروث من القرن الماضي ولم يجد حلّاً حتّى اليوم. بقيت المشكلة وبقيت الجزيرة الصّغيرة مقسّمة الى شطرين. شطر شمالي اسمه الرّسمي "جمهورية شمال قبرص" التي يسكنها القبارصة الأتراك، ولا يعترف بها إلّا أنقرة. وشطر جنوبي اسمه الجمهورية القبرصية ويسكنه القبارصة اليونانيين، ويلقى دعماً من المجتمع الدولي الذي يعتبر أنّ الجزء الشمالي من الجزيرة هو أراضي تابعة لجمهورية قبرص تحتلّها القوّات التّركيّة، وهو أمر غير قانوني بموجب القانون الدولي، وصار يمثّل احتلالًا لأراضي أوروبية منذ أن أصبحت قبرص عضوًا في الاتّحاد الأوروبيّ.

خمسين سنة بُذلت خلالها جهود أممية، ونُظمت جولات مفاوضات مضنية لحلّ الأزمة لكنّها لم تحلّ، لا بل كانت تزداد تعقيداً تبعاً لتعقّد الظروف بين القبارصة أنفسهم، وبين تركيا واليونان اللتين ترعى كلّ منهما أحد الشطرين.

رجب طيب اردوغان، لا يتحمّل وزر تقسيم الجزيرة، لأنّ الغزو التركي لشمال قبرص حدث قبل عقود من وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة في انقرة. الجنرالات العلمانيون الاتاتوركيون هم من اتّخذ قرار الحرب، ونشر القواعد العسكرية في الجزيرة وتقسيم العاصمة نيقوسيا، ردّاً على تطرّف القوميين القبارصة اليونانيين، الذين كانوا يريدون كلّ الجزيرة لهم وحدهم. ومع ذلك سعى اردوغان إلى إيجاد حلّ لهذه القضية يمكّنه من فتح أبواب الاتحاد الأوروبي أمام بلاده. كلّ مساعيه ومساعي الامم المتّحدة فشلت في المفاوضات التي جرت بين الشطرين للاتفاق على إعادة توحيد الجزيرة وبناء "الدولة الواحدة" أو على الأقلّ "الفيديرالية".

فجأة ومن دون مقدّمات حاول الرئيس التركي فتح كوّة في جدار المفاوضات، مقدّماً مقاربة جديدة لحلّ الأزمة، قوامها "حلّ الدولتين". في البداية، لم يتقبّل العالم الفكرة الجديدة، لأسباب مختلفة وكثيرة، منها الغزو العسكري، واحتلال أراضي الغير بالقوّة، وزرع المستوطنين الأتراك الذين تحولوا إلى عقدة في منشار الحلّ السياسي، وتغيير الأمر الواقع بالقوّة القهرية للمحتلّ، بما في ذلك الطابع الديمغرافي. طبعا أوّل الرافضين هما قبرص واليونان، لأنّ هذا الطّرح يسقط كلّ حجتهما التاريخية ويضفي الشّرعية على ما كانا يسمّيانه احتلالاً تركيّاً. وهذا الرفض يسحب نفسه على الاتحاد الأوروبي الذي لا تنفكّ مشاكله تتفاقم مع تركيا. الإدارة الأميركية أيضا رفضت بذريعة أنّ الطّرح التركي يخالف القرارات الدولية. أمّا روسيا التي ترتبط بعلاقات "نفعية متبادلة" مع تركيا، فلم تكن لتتخلّى عن روابطها الأرثوذكسية لا مع أثينا ولا مع نيقوسيا.


أردوغان لم ييأس، عاود الكرّة من جديد في زيارة صاخبة لشمال الجزيرة قبل أيام، مستنداً هذه المرّة إلى جملة تغييرات عميقة تجري في العالم والمنطقة خصوصاً، أولها إيلاء قضية النفط والغاز الموجود في محيط الجزيرة أهمّيّة كبرى، في ظلّ الحاجة الغربية الملحّة لتنويع مصادر الطّاقة وتقليص الاعتماد على الإمدادات الروسية، وهذا بدوره يتطلّب توافقاً إقليمياً ودولياً خصوصا من تلك الدّول المطلّة على بحر إيجة وشرق البحر المتوسط وفي مقدّمها اليونان وتركيا، وفي القلب منها قبرص، وتسوية النزاعات الحدوديّة بين هذه الدّول من خلال إيجاد حلّ دائم للقضيّة القبرصيّة وجزر ايجة، قائم على التوازن. وبغير ذلك فإنّ النتيجة الوحيدة ستكون تَعطُّل استغلال الموارد الطبيعية، وهو ما يتّضح من تجربة قبرص اليونانية، فبعد مرور 15 عاماً على بدء عمليات الاستكشاف وأكثر من 10 سنين على اكتشاف حقل أفروديت، فإنّ الإنتاج لم يبدأ فعلياًّ. في حين قطعت إسرائيل ومصر شوطاً كبيراً في الإنتاج والتصدير خلال الفترة ذاتها. ويرجع ذلك ببساطة إلى أنّ شركات النفط الدّولية تتجنّب الاستثمار في منطقة نزاعات مهما كان نوعها.

ولعلّ سقوط مشروع أنابيب "إيست ميد" الذي كان من المفترض أن يربط إسرائيل بقبرص واليونان، ثم بالبرّ الأوروبي، بالضربة القاضية الأميركية خير دليل على ذلك، وهو ما أشار إليه بوضوح وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش اوغلو بقوله: "إنّ تركيا هي المنفذ الوحيد للغاز الإسرائيلي ولغاز شرق المتوسط للتصدير إلى أوروبا". ومن المفارقات أنّ هذه الحقيقة ذكرها بوضوح أيضاً وزير الطاقة القبرصي جورج باباناستاسيو بقوله إنّ "الجمود المستمرّ لم يضرّ بقبرص فحسب، بل أضرّ بالمجتمع الدولي". واعتبر أنّ الخلافات السياسية والقضايا التي عطّلَت خط "إيست ميد" قد تعطّل أيضاً خط الأنابيب من إسرائيل وحقول المتوسط إلى تركيا".

ترى أنقرة أنّ اللحظة مؤاتية لكسب السباق القبرصيّ نظرا لتمتُّعها حالياً بأفضل وضع جيوسياسي

وتقود هذه التزامنات إلى استنتاج أساسي: الولايات المتحدة قرَّرت تحييد لعبة الطاقة لدفع حلفائها في المنطقة إلى التقارب، واستبدال تحالفات الغاز السياسي، التي استبعدت تركيا، بتحالف أوسع يضمّ كلّاً من إسرائيل ومصر وتركيا، إلى جانب دول الخليج، في إطار إعادة توزيع العبء الأمني في المنطقة على شبكة أكثر تكاملاً من الحلفاء.

على هذا الأساس، تبدو الخطوة الأميركية الأخيرة دفعةً على الحساب في رصيد أنقرة، ويبدو أنَّ الأخيرة قبلت المبادرة الأميركية، إذ كان لافتاً عدم إبدائها أيّ رد فعل على عودة شركة "إكسون موبيل" الأميركيَّة إلى أعمال الحفر في المنطقة الاقتصادية القبرصية الخالصة، وهو ما كانت أنقرة تعارضه سابقاً، وتقف ضدّه بحزم.

ترى أنقرة أنّ اللحظة مؤاتية لكسب السباق القبرصيّ نظرا لتمتُّعها حالياً بأفضل وضع جيوسياسي، يتمثّل بأنّها باتت حاجة استراتيجية إلى كلّ من اميركا والغرب للتعامل مع تداعيات غزو روسيا لأوكرانيا، وللمواجهة مع إيران. يُضاف إلى ذلك نجاحها في اعتماد سياسة خارجية تستهدف تصفير الخلافات مع دول المنطقة كالسعودية والإمارات ومصر.

عام 1974 نصح الديبلوماسي الأميركي الداهية هنري كيسنجر الرئيس جيرالد فورد بعدم منع القبارصة الأتراك من امتلاك ثلث مساحة الجزيرة، فهل تأخذ الإدارة الأميركية الحالية بالنصيحة اليوم كي يصير الحلّ المعتمد في قبرص سواء بالفدرلة أو التقسيم نموذجاً لحلّ يمكن اعتماده في دول أخرى.