الواقع الصّعب الذي طرحناه لا يُمكن حلّه لا بتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي ولا باستلام نائب الحاكم الأول (أو أيّ شخص آخر) مهام الحاكمية
ما يحصل حاليًاً في حاكميًة مصرف لبنان والغموض الذي يلفّ القضيّة، يُمكن تلخيصه بأنّه رهينة الموافقة على الصّرف من أموال الإحتياطي الإلزامي (أي أموال المودعين)!
بالمبدأ المادّة 25 من قانون النّقد والتسليف واضحة، في حال شغور منصب حاكم مصرف لبنان يقوم النّائب الأوّل بتولّي مهام الحاكمية. في الظّاهر، الأمور بسيطة ولكن أمام هذا الموقف هناك تعقيدات عديدة تطال هذا الأمر وعلى رأسها رغبة نوّاب الحاكم بإلغاء منصّة صيرفة وهو ما يعني عدم إمكانية تدخّل مصرف لبنان سواء لشراء أو بيع الدولارات في السّوق (نظرًا إلى الأزمة المصرفيّة التي عطّلت دور المصارف التجارية)، وبالتّالي أمّ المشاكل تظهر في عدم قدرة المصرف المركزي على تأمين الدولارات للحكومة اللبنانية التي هي بأمسّ الحاجة للدولارات لتمويل إنفاقها الجاري والتي كان المصرف المركزيّ يؤمّنها لها من خلال شراءه الدّولارات في السّوق عبر منصّة صيرفة.
أمّ المشاكل تظهر في عدم قدرة المصرف المركزي على تأمين الدولارات للحكومة
المُشكلة الثانية التي تبرز على هذا الصعيد، هي تأمين الدّولارات للمودعين الذين يستفيدون من التّعميم 158، ولأجور موظّفي القطاع العام، ولموظّفي القطاع الخاص من باب التّعميم 161. هذه الدولارات كان يؤمّنها المصرف المركزي من خلال شراءه الدولارات من السّوق، وبالتّالي ومع توقّف منصّة صيرفة عن العمل، كيف يُمكن للمصرف المركزي تأمين الدولارات؟ والأصعب في الأمر أنّ دفع هذه المستحقّات بالليرة اللبنانية سيرفع حجمها بوتيرة لا تقلّ عن عشرة تريليونات ليرة لبنانية في الشّهر، ممّا يعني فلتان الدولار في السوق الموازية! واستطرادًا تظهر المُشكلة الثالثة والتي تتلخّص في تدخّل مصرف لبنان في السوق (عند الحاجة) للمحافظة على استقرار في سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية وهو أمر مُستحيل في حال تمّ إلغاء منصّة صيرفة.
كما نرى ممّا سبق، أنّ هذه المشاكل الثلاث تحتاج إلى تمويل بالدّولار الأميركي، وهو أمر غير متوفّر إلّا إذا تمّ المسّ بأموال المودعين مباشرة أي بالإحتياطي الإلزامي، ممّا يعني مخالفة فاضحة للقانون، بحكم أنّ الإحتياطي الإلزامي هو نتاج عقد خاص بين المصرف المركزي والمصارف التجاريّة وبالتالي لا يُمكن المسّ به. لذا يُطالب نوّاب الحاكم بتشريع من قبل المجلس النيابي للتصرّف بهذه الأموال وهو أمرٌ شبه مُستحيل نظرًا إلى طبيعة القانون الخاص الذي يرعى هذه الأموال!
من هنا نرى أنّ تسلّم مهام حاكم المصرف المركزي من قبل نائبه الأوّل تخفي خلفها تعقيدات أقلّ ما يُقال عنها أنها ستؤدّي إلى أمر من اثنين: إمّا إنهيار كلّي في حال توقّف تمويل مصرف لبنان للحكومة والمودعين والموظفين، وإمّا المسّ بالإحتياطي الإلزامي وهو ما يعني إمكانية الملاحقة القانونية للمسؤولين.
لذا يُحاول نواب الحاكم وعلى رأسهم النّائب الأول أخذ الغطاء السياسي والتشريعي لاستخدام الإحتياطي الإلزامي بهدف التمويل، وبالتّالي قرار الإستقالة من عدمها مرهون بالنّتائج. لكن في كلا الحالتين، هناك إلزاميّة (بحسب خبراء القانون) أن يتولّى نواب الحاكم مهامهم وبالتّالي يقول البعض أنّ هذه المعضلة لا يُمكن الخروج منها بسهولة!
وهنا قد يتساءل البعض عن سبب الإصرار على إلغاء منصّة صيرفة طالما أنّ إلغاءها سيُسبّب كلّ هذه المشاكل؟ باعتقادنا السبب يعود إلى مطالب صندوق النّقد الدّولي، والذي يُريد وقف تدخّل المصرف المركزي في السّوق وترك سعر صرف الليرة مُقابل الدّولار حرًا للعرض والطلب. وبالتالي قد يكون نوّاب الحاكم أعربوا عن استعدادهم أمام الصندوق لإلغاء منصّة صيرفة واستبدالها بمنصّة أخرى يتم العمل عليها مع وكالة بلومبرغ الشهيرة في مجال الأسواق الماليّة.
عمليًا هزّة الدّولار البارحة – بغضّ النظر عن أسبابها – أظهرت مدى هشاشة الوضع حيث ارتفع الدّولار بحدود العشرة آلاف ليرة لبنانية في وقت قصير، وهو ما يعني أنّ الغموض القائم، والمضاربة المُحتملة، والطّلب الكبير على الدّولار الذي سينتج عن إلغاء منصّة صيرفة سيؤدّي إلى إرتفاع الدّولار بشكل عنيف في غضون فترة قصيرة. وبالتالي سيكون هناك عواقب كثيرة وخطيرة وسيكون أول ضحاياها المواطن الذي سيرى قدرته الشرائية تضمحّل وسيتمّ وقف بيع العديد من السّلع والبضائع على مثال ما حصل منذ يومين مع محطّات الوقود التي أقفلت أبوابها مباشرة مع صعود الدّولار في السوق الموازية إلى مستويات المئة ألف ليرة لبنانية. وممّا يُفاقم الوضع أكثر هو إرتفاع الدولار مُقابل الليرة السّورية ممّا يعني زيادة التهريب عبر الحدود ونقص في المواد الغذائية والسّلع وارتفاع الأسعار خصوصًا أنّ الرقابة شبه معدومة وبالتاّلي الفلتان من العقاب أمر مُحتمل جدًا.
سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية. المصدر:lirarate.org .
ما هو المتوقّع إذًا؟ الواقع الصّعب الذي طرحناه لا يُمكن حلّه لا بتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي ولا باستلام نائب الحاكم الأول (أو أيّ شخص آخر) مهام الحاكمية . الحلّ الوحيد يكمن في إعادة تكوين السّلطة التنفيذية (رئيس جمهورية وحكومة) والقيام بإصلاحات بدعم من قبل صندوق النقد الدولي حيث يتوجّب إعادة البحث في خطّة الحكومة، خصوصًا بعد قرار مجلس شورى الدّولة بعدم قانونيّة شطب ديون الدولة اللبنانية التي هي أموال المودعين.
هناك مخاوف جدّية على أن تكون المعادلة القائمة في المرحلة المُقبلة: الفوضى أو استخدام الإحتياطي الإلزامي.
إلّا أنّه وفي ظلّ صعوبة تحقيق ما تقدّم، هناك أربعة سيناريوهات مُمكنة نظريًا:
أوّلاً – إستلام نوّاب الحاكم المهام (بغضّ النظر عن تقديم استقالتهم أم لا) مع إقرار قانون في المجلس النيابي يسمح بالمسّ بالإحتياطي الإلزامي، وهو ما يحلّ الأزمة على صعيد التمويل ولكن على حساب أموال المودعين الباقية أي 9.5 مليار دولار أميركي.
ثانياً – إستلام نوّاب الحاكم المهام مع عدم إقرار قانون في المجلس النيابي يسمح بالمسّ بأموال المودعين، وهنا يظهر خيارين: الأول إلغاء منصّة صيرفة ممّا يعني الذهاب إلى كارثة على الصّعيد النّقدي، والثّاني عدم إلغاء منصّة صيرفة وهو ما يعني الإبقاء على الوضع كما هو لعدّة أشهر مع استقرار في الوضع النقدي.
ثالثًا – تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي وهو أمر غير متوفّر حاليًا نظرًا إلى المواقف التي أبدتها القوى السياسية.
رابعًا – التمديد للحاكم الحالي (أو تكليفه؟!) لحين تعيين حاكم جديد وهو ما يعني استمرار الوضع على ما هو عليه لعدّة أشهر أو أكثر مع استقرار في الوضع النقدي. هذا السيناريو يواجه معارضة شديدة من قبل بعض القوى السياسية.
بالطبع إستبعدنا من سيناريوهاتنا إمكانية أن يقوم صندوق النّقد الدولي بتمويل حاجات لبنان بالدّولار نظرًا إلى أنّ هناك معادلة مطروحة عالميًا: لا مُساعدات للبنان من دون إصلاحات (لكن من يدري ما يُمكن أن تفعله السياسة؟!).
عمليًا الصّراع السياسي دخل من بابه العريض إلى مصرف لبنان حيث أنّ أيًا من السيناريوهات المطروحة أعلاه، لا يستحوذ على إجماع القوى السياسية وبالتالي هناك مخاوف جدّية على أن تكون المعادلة القائمة في المرحلة المُقبلة: الفوضى أو استخدام الإحتياطي الإلزامي.