يتابع اللبنانيون باهتمام شديد التطورات التي تشهدها فرنسا لجهة المواجهات بين الشرطة من جهة ومجموعات تتكون بأغلبها من المهاجرين.

 وينبع الاهتمام اللبناني من رابط خاص يجمعهم بفرنسا الأم الحنون، التي سبق وكانت دولة انتداب على لبنان. وفيها تعيش جالية لبنانية كبيرة من سنوات طويلة. ويكتسب الوضع الراهن والمتأزم هذا أهمية إضافية في ظل وجود مبادرة فرنسية أو محاولة طرح مبادرة لحلّ أزمة الرئاسة في لبنان، إضافة إلى مسألة إسقاط ما يجري من مواجهات على واقع علاقة لبنان بالنازحين السوريين الذين يقدّر عددهم بنحو نصف الشعب اللبناني المقيم.

وقبل الخوض في موضوع لبنان والنازحين وانعكاس ما يجري في فرنسا على واقع البلاد المأزومة أصلا والتي تشهد انهياراً غير مسبوق على مختلف الصعد، برز تطوّر أمني جنوباً. وهو تطوّر يحمل دلالات خطيرة قد يدفع إلى جملة استنتاجات قد تكون صائبة أو لا تكون. صاروخان سقطا في بلدة الغجر الحدودية المحتلّة، لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عنهما. لكن الحادث أتى بعد بيان أصدره حزب الله رداً على ضمّ إسرائيل للجزء اللبناني من البلدة إلى الجزء المحتلّ منها بعد وضع سياج حديدي، اقتطعها من الأراضي اللبنانية. وإذ وصف حزب الله ما أقدمت عليه إسرائيل بـ"أنّه تطوّر خطير" دعا "الدولة اللبنانية بكافة مؤسساتها، لا سيما الحكومة اللبنانية، والشعب اللبناني بكافة قواه السياسية والأهلية أيضاً، إلى التحرّك لمنع تثبيت هذا الاحتلال وإلغاء الإجراءات العدوانية التي أقدم عليها، والعمل على تحرير هذا الجزء من أرضنا وإعادته إلى لبنان". وكان ردّ الفعل الإسرئيلي على إطلاق الصاروخين قصفاً مدفعياً استهدف قرى حلتا وكفرشوبا وكفرحمام.

هذه التطورات الأمنية كان يمكن وضعها في إطار المناوشات الاعتيادية التي يشهدها الجنوب اللبناني لو أنّها لم تأتِ بعد كلام كثير قيل عن أنّ حزب الله قام بدوره لجهة تسهيل ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل، وهو ينتظر المقابل من الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية لجهة القبول بالمبادرة الفرنسية التي كانت مطروحة وتقضي بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية تحت عنوان الرئيس الذي تأمن له المقاومة. وكان من الممكن اعتبار هذا الأمر مجرّد استنتاجات لو أنّ هكذا كلام لم يصدر عن جهات قريبة من حزب الله وآخرهم الشيخ صادق النابلسي الذي أطلّ في مقابل تلفزيونية للحديث عن "دور حزب الله في تحييد تدخله بالشأن الرّئاسي اللبناني وذلك من خلال ورقتي المقاومة والثروات الغازية في البحر، وربما ورقة النازحين وأوراق أخرى... ولكي نخرج من الأزمة ربما يكون السبيل "حرب مع إسرائيل..." وأضاف النابلسي "إذا لم نستطع بالحوار التفاهم على المبادرات من أجل الوصول إلى صيغة معينة يمكن من خلالها انتخاب رئيس للجمهورية، قد تكون الحرب أفضل وسيلة لتغيير المعادلات".

ووفق هذا الكلام يصبح مفهوماً أن حزب الله وفي ظل عدم تحقيقه ما يصبو إليه على صعيد موقع رئاسة الجمهورية، وطالما أن لا منصّات لاستخراج النفط والغاز قامت حتى الساعة على الجانب اللبناني من الحدود، لا يجد حزب الله نفسه معنيّا بضبط منصات الصواريخ "المتفلّتة"، بل هو معني بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي حتى تحرير آخر شبر من الأراضي اللبنانية المحتلّة، ويعود إلى المقاومة تحديد التوقيت المناسب للقيام بما يحقّق هذا الهدف.

ما شهده الجنوب خلال اليومين الماضيين يترافق مع التحضيرات التي بدأها اللبنانيون في مختلف المناطق استعداداً لموسم الصيف الموعود بنسبة عالية من السياح المعوّل عليهم لرفد السّوق المحلّي بالدولارات "الفرش" مع ما يعنيه هذا الأمر على صعيد سعر الصرف والوضع النقدي في البلاد. فهل هناك من يفكّر بحرمان اللبنانيين من العائد السياحي المرتقب لإغراقهم بالمزيد من الأزمات والصعوبات ومنع حتّى الأوكسيجين عنهم؟

هل هناك من يفكّر بحرمان اللبنانيين من العائد السياحي المرتقب لإغراقهم بالمزيد من الأزمات والصعوبات ومنع حتّى الأوكسيجين عنهم؟

وبعد المرور بنقطتي المقاومة والنفط والغاز، تبقى نقطة النازحين السوريين في لبنان. فهذه الورقة كان المرشح سليمان فرنجية المدعوم من ثنائي حزب الله - أمل أو الثنائي الوطني، قد أكّد أنّه الأقدر على معالجتها انطلاقا من العلاقة الشخصية التي تربطه بالرئيس السوري بشار الأسد. وهنا لا بد من سؤال يتّصل بما قصده فعلا النابلسي بأنّ النزوح السوري في لبنان يمثّل ورقة يمكن استخدامها لتحييد النفوذ الأميركي. من الجائز القول أنّ فرنجية لن يتخلّى عن ورقة رابحة وهي العمل على إعادة النازحين إلى بلادهم في حال انتخابه، هذه العودة التي يمانعها الغرب وتحديداً واشنطن. فهل يتوقع أحد أنّ المقصود هنا العمل على إعادتهم بما يخالف الرغبة الأميركية ومن دون الوصول إلى رئاسة فرنجية؟ أم أنّ الأمر يحمل بعداً آخر وغايات مختلفة.

بعد كل ما أوردناه حتى الآن يصبح من الأسهل قراءة مدلولات المواجهات الافتراضية التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بين شريحة كبيرة من اللبنانيين وجمهور عربي واسع تحت عنوان "الأحداث الدامية في فرنسا". والجدير التنبّه له في هذه المواجهات تلك الحدّة في أسلوب التخاطب بين الطرفين. ففيما مالت أغلب التعليقات العربية إلى التعاطف مع الجماهير الغاضبة في فرنسا، تميزت مواقف شريحة واسعة من اللبنانيين برفض ما يجري لجهة حجم التعدّي على الأملاك الخاصّة والعامة.

ويبقى من المهمّ التّوقّف مطوّلا عند الخطاب الدّيني الذي رافق هذه المواجهات. حيث بدا الأمر وكأنّها معركة مسلمين ضد مسيحيين أو العكس. فأغلب التعليقات اللبنانية كانت تقارن بين ما يجري في فرنسا وما يمكن أن يحصل في لبنان في ظلّ وجود ما يقارب المليوني نازح سوري، وفي خضمّ أزمة معيشية اقتصادية مالية خانقة، وخلاف سياسي تشريعي وطائفي، ويحضر السوري في كل مفاصل ما تعيشه البلاد تحت عناوين عدّة ترفعها الأطراف اللبنانية كلّ لغاياته وأهدافه.

هذه النقاط وغيرها التي لا تقلّ أهمّية عنها، ستكون مدار بحث ونقاش وأخذ وردّ خلال الأسبوع الطّالع، انطلاقاً من تأثيرها على الواقع اللبناني بمجمله والشأن الرئاسي أوّلاً، حيث يمكن اختصارها بما يجري على صعيد تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، وقد يصبح الخوف من شغور الموقع سبباً للمسارعة إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد وتجنيب لبنان ما سبق وأوردناه، أو ولا بدّ..... "ذاهبون من واقع سيء إلى واقع أسوأ".