في كلّ مرّة يجري التطرّق إلى مسألة إنتاج الأجنّة البشرية مخبرياً تطلّ الإشكاليات الأخلاقية برأسها، واضعة المسألة تحت مجهر الاعتراض المنهجي حيناً، والخوف من مستقبل غامض حيناً آخر. قبل أيام، نُشرَت نتائج دراسات علمية عدّة خَلصت إلى إمكانية استخدام الخلايا الجذعية (stem cells) لإنشاء هياكل تشبه الأجنّة البشرية في المختبر. صحيح أنّ التقنيات التي تلقي عليها الدراسات الضوء متعدّدة، لكن انعدام الحاجة في لبّها إلى حيوانات منوية أو بويضات أو إخصاب تشكّل سابقة علمية من نوعها. وبما لا يدعو للاستغراب، من شأن ذلك إثارة المخاوف الأخلاقية إياها وإطلاق العنان لدعوات ترسيخ ضوابط تنظيمية صارمة لهذا المضمار المفتوح على كلّ الاحتمالات. وهي احتمالات لا يحدّها أفق.
قبل التعمّق أكثر، نجول سريعاً على تطوّرات علمية ذات صلة شهدتها السنوات القليلة الماضية. ففي منتصف العام 2021، توصّل علماء، بحسب دراسات نُشرَت في مجلة Nature، إلى ما يلي: شرح إمكانية تشكيل جنين اصطناعي بخلايا جذعية يحاكي الجنين الطبيعي؛ وتقديم حلّ لزراعة جنين في وعاء شفّاف إفساحاً في المجال أمام مراقبة تطوّره عن كثب تقليداً لنظام عمل الخلايا الجنينية الموجودة في الأجنّة الحقيقية.
تطوّر آخر لا يقلّ أهمّية شهده العام 2021 وتمثّل بإطلاق مجموعة من خبراء الخلايا الجذعية من الجمعية الدولية لبحوث الخلايا الجذعية توصية بتمديد المهلة المحدّدة بـ14 يوماً لزراعة أجنّة بشرية في المختبر. الهدف من التوصية كان تعميق المعرفة الضرورية في إطار علمي دولي، في حين جاءت التوصيات لتغطّي مروحة من البحوث ذات البعد الأخلاقي: زرع خلايا بشرية في حيوانات حيّة، تعديل الجينوم وتكوين أعضاء من خلايا جذعية.
تجدر الإشارة إلى أنّ قاعدة الأربعة عشر يوماً طُرحت للمرة الأولى سنة 1979 تزامناً مع ظهور تقنية التخصيب المخبري، على الرغم من أنّ الأمد الأقصى لحياة تلك الأجنّة يومها لم يكن يتجاوز بضعة أيام. وفي العام 2006، أصدرت الجمعية الدولية لبحوث الخلايا الجذعية باكورة توجيهاتها بما يتعلّق بالخلايا الجذعية الجنينية البشرية، لتصبح تلك القاعدة أساساً في الدراسات المرتبطة بالحقل موضوع البحث. لكن ما رمزية اليوم الرابع عشر؟ هو مبدئياً المدة الزمنية لظهور التَلم الأوّلي (primary sulcus)، أي البنية التي تُشير إلى بدء الجنين بتكوين محور الجسم وتمييز الرأس عن الذيل والجانب الأيسر عن الأيمن. فبعد انقضاء اليوم الرابع عشر، تبدأ الأجنّة بتنظيم الخلايا لتشكيل أعضاء - وهو ما يُطلَق عليه فترة "الصندوق الأسود" (black box) لشحّ المعلومات حول الأجنّة البشرية من هناك وصاعداً. ومن فوائد تجاوز عتبة الأربعة عشر يوماً تطوير مفاهيم للكشف عن كيفية نشوء أنواع خلايا الأعضاء وحدوث حالات فقدان الحمل والعيوب الخلقية.
سنة 2022، تمكّن باحثون في معهد "وايزمان" للعلوم من إنتاج أجنّة فئران اصطناعية من الخلايا الجذعية، محيّدين الحاجة إلى الحيوانات المنوية والبويضات وحتّى إلى الرّحم بالمطلق. النتائج جاءت يومذاك اعتماداً على عاملين: أوّلاً، إعادة برمجة الخلايا الجذعية وتطوير جهاز يمكّن الأجنّة من النّموّ خارج الرحم؛ وثانياً، تطوير أجنّة فئران تماشياً. الخلط جرى بين مجموعات اشتملت على خلايا قابلة للتطوّر إلى أعضاء جنينية وأخرى معالَجة بجينات لأنسجة خارج الجنين. و"الوعاء" كان رحماً اصطناعياً يتحكّم بعاملَي الضغط والأكسجين. وبحسب الفريق البحثي يومها، قيل إنه بات للأنواع المختلفة من الخلايا قدرة على التطوّر إلى هياكل تشبه الجنين، ما سيساعد في الحدّ من الحاجة إلى إجراء تجارب على حيوانات حيّة لتحويلها لاحقاً إلى مصادر للأنسجة والأعضاء لزوم الزراعة.
النتائج أعلاه مجتمعة أصابت العلماء بالذهول. غير أن ليس للذهول حدود في دنيا العلوم. وهذا يعيدنا إلى حيث بدأنا. وهي البحوث التي قام بها فريق من جامعة كامبريدج ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وأُعلن عنها في الاجتماع السنوي للجمعية الدولية لأبحاث الخلايا الجذعية في بوسطن الأميركية. فقد استندت، وفقاً لصحيفة الـ"غارديان" البريطانية، إلى تقنيات مخبرية تمكّن الخلايا الجذعية الجنينية البشرية من أن تصبح في ما بعد أي نوع من الخلايا، كما الاجتماع ذاتياً في بنية تشبه الأجنّة، دون الحاجة إلى حيوانات منوية أو بويضات أو إخصاب. الأجنّة الناتجة سُميّت "أجنّة نموذجية اصطناعية" شبيهة بتلك المرافقة للمراحل الأولى من التطوّر البشري. وعلى الرغم من أنّها لا تحتوي على قلب نابض أو تكوين دماغي، إلا أنّها مبنية على خلايا تتطوّر إلى مشيمة (chorion) وكيس محي الجنين (yolk sac) نفسه.
صحيح أنّ قدرة تلك الأجنّة بعد هذه المرحلة على مواصلة النضج والنموّ داخل جسم حيّ – في ما يؤدّي لاحقاً إلى الحمل - ليست مضمونة. إنما يبقى مع ذلك الهدف منها تزويد العلماء بنموذج لدراسة الأجنّة البشرية وتسليط الضوء على أسباب نشوء العيوب الخلقية والاضطرابات الوراثية والعقم ومشاكل ذات صلة بمرحلة الحمل. وتكفي الإشارة، مثلاً، إلى أنّ 30% من حالات الحمل تفشل بعد إتمام عملية الزرع للتيقّن من مدى ثورية التقنية مع كامل التفهّم لبعدها الإشكالي أخلاقياً. لكن ثمة إجماعاً بين الباحثين المختصّين على أنّ تطويرها لتشمل نموّ الخلايا في فترة ما بعد اليوم الرابع عشر لن يطول كثيراً. وهذا سيفتح الباب عاجلاً أم آجلاً أمام فهم المزيد من خبايا التطوّر البشري، ماضياً، حاضراً ومستقبلاً.