أكثر ما يخشاه المراقبون هو أن "يكون رياض سلامة يعتمد سياسة الأرض المحروقة". بمعنى أنّه يتقصّد صرف كل الاحتياطي قبل مغادرته لإسكات الألسن عنه، وتخفيف النقمة على السياسيين من أجل الاستمرار بحمايته، ومن بعده "يفلت" سعر الصرف، وتسوء الأوضاع أكثر. ويخرج عندها من يتحسّر على عهد سلامة.

مقابل الضبابية التي تلفّ الوضع النقدي ومصير سعر الصّرف بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ستَظهر نتائج السياسات المتّبعة بشكل واضح ونقي. فـ "قشّة" تثبيت سعر الصّرف التي يخفي سلامة وراءها الخسائر الهائلة، لن تلبث أن "تطير" في مهبّ عدم اقتناع المجلس المركزي بمنصّة صيرفة. وممارسة نواب الحاكم قناعاتهم، وفقاً لما يمليه عليهم ضميرهم المهني، سيفضح الكلفة الحقيقية التي تحمّلها الاقتصاد عامة والمودعون خاصّة، جرّاء "تعمّد" السّلطة مجافاة الإصلاحات وتستّر سلامة عليها بالتعاميم والإجراءات.

قبل 25 يوماً على انتهاء ولاية الحاكم، برزت ثلاثة معطيات تستحقّ التوقف عندها مليّاً:

  • الأول، الإيحاء بأنّ لا أحد يملك "جرأة" رياض سلامة لإدارة المرحلة المقبلة الخالية من رئيس جمهورية وحكومة أصيلة ومجلس نيابي فاعل.
  • الثاني، الحديث عن انقسام داخل المجلس المركزي، وتسويق اختلاف نواب الحاكم على القرارات المصيرية.
  • الثالث، الهمس أنّ حتى أعداء سلامة يشهدون أنّ "الحاكم هو الأقدر على إدارة الأزمة بأقلّ الخسائر". ويروّجون أنّ "المرحلة تتطلّب تخطّي الشعبوية، والتحلّي بجرأة التمديد لسلامة!".

خسائر المواطنين جرّاء التضخّم ولحاق صيرفة بسعر السّوق الموازي

ومن المعطى الثالث نبدأ. فالذين يعتبرون أنّ سعر الصّرف المستقرّ حالياً عند حدود 91500 ليرة، لا يشكّل خسارة، فليتذكّروا أنّ سعر الصّرف كان في بداية العام حوالي 55 ألف ليرة، أي أقلّ من النّصف تقريباً. وكان سعر الصّرف على منصّة صيرفة 32 ألف ليرة. ولم يرتفع سعر الصّرف في السّوق الموازي إلى 140 ألف ليرة في 21 آذار الفائت إلّا نتيجة لتدخّل مصرف لبنان شارياً "الدولار" بكمّيات كبيرة تحضيراً للمرحلة التي تسبق مغادرته. خصوصاً أنّ شيئاً لم يتغيّر على صعيد الوضع السياسي والمالي ليرتفع سعر الصّرف بهذا الشكل الجنوني. بل العكس، فإنّ مؤشّرات تراجع العجز في ميزان المدفوعات، وازدياد تدفق الدولارات إلى البلد، كان من شأنهما تحسين سعر الصّرف. ولكنّ هذا ما لم يحدث. فارتفع سعر الصّرف بشكل هائل ممّا زاد من معدّلات انهيار الليرة وارتفاع منسوب التضخّم. كما زاد سعر صيرفة وارتفعت معه فواتير الكهرباء والاتّصالات والرسوم الجمركية بشكل هائل، وتآكلت الزيادة بمقدار 7 أضعاف على رواتب القطاع العام التي أقرّتها الحكومة في أيّار. حتى أنّ رواتب الكثير من المتقاعدين لم تزد بأكثر من 3 دولارات رغم رفعها 6 مرّات نتيجة رفع السّعر على منصة صيرفة من 32 ألف ليرة إلى 86200 ليرة.

خسائر المودعين لا تقلّ فداحة

من الجهة الأخرى تظهر الأرقام تراجع التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان (يفرض المركزي على المصارف وضع وتثبيت 15 في المئة من الوديعة نقداً في مصرف لبنان. خفض الحاكم النسبة إلى 14 في المئة في العام 2021). وقد بلغ حجم التوظيفات الإلزامية مؤخراً 9.5 مليار دولار، مع العلم أنّ هذا الرقم يجب ألّا يتدنّى عن 14 مليار دولار في حال اعتبرنا أنّ "حجم الودائع في القطاع المصرفي يبلغ 93 مليار دولار" بحسب أرقام جمعية المصارف. وعليه استعمل مصرف لبنان بقيادة الحاكم ما لا يقلّ عن 5 مليارات دولار من التوظيفات الإلزامية للمصارف. وهذا ما يعتبر "مخالف للقانون والمنطق"، بحسب المدير التنفيذي السابق في مصارف عالمية صائب الزين. "فمن جهة، وخلال العام الماضي صرّح عدد من المصرفيين والمحامين أن المركزي لا يحق له قانوناً استخدام هذه الأموال لأيّ غرض كان، ومن الجهة الثانية يستعملها لتثبيت سعر الصرف اصطناعياً على حساب آخر ما تبقّى من حقوق المودعين".

بالأرقام يتبين أنّ منصّة صيرفة قد سجّلت في حزيران الفائت الرّقم الأعلى في التداول منذ تحديثها وانطلاق العمل بها في شكلها الأخير في أيار 2021. وبلغ حجم التداول على المنصّة خلال 19 يوم عمل فقط في شهر حزيران، 3 مليارات و115 مليون دولار. ويقدّر حجم الأرباح التي حقّقها المتداولون بنحو 234 مليون دولار نتيجة الفرق بين سعر المنصّة وسعر السوق السوداء. أمّا حصة المصارف من العملية فلم تقلّ عن 155 مليون دولار. إذ أنّ العمولة كانت 5 في المئة على العمليات. ومما يتبيّن بحسب مصادر متابعة فإنّ "مصرف لبنان يتدخّل بائعاً للدولار بما لا يقلّ عن 100 مليون دولار شهرياً بالفترة الأخيرة". ما يعني دفع أكثر من مليار دولار سنوياً مما تبقّى من أموال المودعين الموضوعة لديه على شكل توظيفات الزامية.

سكوت المصارف

المصارف التجارية التي سبق واعترضت على منصّة صيرفة، عادت ورضخت. فهي "لا تملك القدرة على الاعتراض أو وقف تنفيذ القرار"، بحسب وزير الاقتصاد السابق ورئيس مجلس إدارة "سيدروس بنك" رائد خوري. "خصوصاً أنّ المركزي يملك السلطة الوحيدة بكيفية استعمال الاحتياطي. وهو السلطة النّاظمة للقطاع المصرفي والمصارف". ذلك على الرّغم من أنّ "موقف المصارف بالأساس معارض لاستعمال التوظيفات للتدخّل على منصّة صيرفة"، يؤكد خوري. "لأنّ هذا التدخّل يؤدّي إلى استنزاف الاحتياطي بشكل كبير، ويؤثّر سلباً على حقوق المودعين، ويودي إلى توزيع الأموال بطريقة غير عادلة بشكل كبير".

التوزيع غير العادل للثروة

في الوقت الذي يُقتطع من حقوق المودعين 85 في المئة على كل سحب نقدي بالدولار، "يحصل المضاربون على أرباح بمئات ملايين الدولارات. وهو ما أدّى إلى نشوء طبقة جديدة من الأغنياء"، يقول الزين. "تضاف إلى من سدّد أيضاً قروضا بمليارات الدولارات بأسعار صرف غير حقيقية، وممن استفاد من الدعم والتهريب. وهي كلها عوامل أدّت إلى توزيع سيئ وغير عادل للثروة".

سياسة الأرض المحروقة

هل يتلقّى نوّاب الحاكم كرة نار المصارف بصدورهم "العارية"، أم يشترطون التغطية القانونية للاستمرار بها، أم يوقفونها..

أمام ما تقدّم يظهر واضحاً أنّ كلفة تخفيض سعر الصرف إلى 91 ألف ليرة، وإرضاء جماعات السياسيين في الإدارات والوزارات بفتات الدولارات التي تدفع على صيرفة أكبر بما لا يقاس من استمرار العمل بها. إلّا أنّ أكثر ما يخشاه المراقبون هو أن "يكون رياض سلامة يعتمد سياسة الأرض المحروقة". بمعنى أنّه يتقصّد صرف كل الاحتياطي قبل مغادرته لإسكات الألسن عنه، وتخفيف النقمة على السياسيين من أجل الاستمرار بحمايته، ومن بعده "يفلت" سعر الصرف، وتسوء الأوضاع أكثر. ويخرج عندها من يتحسّر على عهد سلامة.

لغاية الساعة "لا يوجد قرار واضح بشأن الاستمرار بصيرفة من عدمه بعد انتهاء ولاية الحاكم"، يؤكّد خوري. "إلّا أنّه من الواضح أنّ هناك ضغوطاً سياسية للإكمال بصيرفة. على الرّغم من أنّ موقف نواب الحاكم في الأساس معارض لها. باعتبار أنّ الاموال التي تدفع على المنصّة من الاحتياطي وتمسّ بحقوق المودعين". وعليه، هل يتلقّى نوّاب الحاكم كرة نار المصارف بصدورهم "العارية"، أم يشترطون التغطية القانونية للاستمرار بها، أم يوقفونها.. أسئلة تبقى الإجابة عليها رهن القادم من الايام.

نواب الحاكم يصدرون بيانا تحذيرياً مشتركاً، ويشددون على تحمل السلطة مسؤوليتها

أمام هذا الواقع أصدر نوّاب حاكم مصرف لبنان الأربعة وسيم منصوري، بشير يقظان، سليم شاهين والكسندر مراديان عصر هذا اليوم، بياناً مشتركاً شدّدوا فيه على "ضرورة تعيين حاكم عملاً بالمادة 18 من قانون النقد والتسليف. إذ لا يجوز أن ينسحب مفهوم تصريف الأعمال الى السلطة النقدية الأعلى في الدّولة. خصوصاً في ظلّ غياب خطّة شاملة وواضحة لإعادة التوازن المالي والمصرفي، كما وتحقيق توازن في موازنة الدولة، ممّا يسمح للمصرف المركزي بوضع الأسس النقدية والمالية لإعادة الثقة". وختم النواب بيانهم بالتّحذير من أنّهم "سيضطرون إلى اتّخاذ الاجراءات التي يرونها مناسبة للمصلحة العامة". أوساط متابعة اعتبرت أنّ "الهدف من البيان هو وضع القوى السياسية ومجلس الوزراء تحت الأمر الواقع؛ فإمّا تأمين التغطية القانونية للاستمرار بصيرفة وغيرها من القرارات التي اتخذت في عهد سلامة، أو سيضطرّون إلى إيقاف العمل بالمنصّة خصوصاً أنّها غير قانونية وسترتّب عليهم تحمّل المسؤولية". وبحسب المصادر فإنّ "إيقاف منصّة صيرفة سينجم عنه في المقابل تدهور سعر الصّرف وهذا ما لا يريده نوّاب الحاكم أيضاً. وبالتالي هم يطالبون بغطاء قانوني لاستمرار العمل بها بأقلّ أضرار ممكنة".