وربّما على قطر وباريس وواشنطن والقاهرة الدفع باتجاه تعاون سعودي إيراني لما لهذين البلدين من تأثير ومكانة عند اللبنانيين، لرعاية هكذا مؤتمر تأسيسي لمستقبل هذا الوطن المهدّد حالياً بالضياع.

قد يكون من المفيد الإقرار بفشل الصّيغة اللبنانية التي أقرّها اتفاق الطّائف من دون دور الوصيّ، الذي يُلزم الفرقاء المتخاصمين بالتوصّل إلى تسوية لنقص في البنود التطبيقية ربّما، وربّما لكون عناوين وثيقة الوفاق الوطني جاءت فضفاضة عامّة تكمن الشياطين في تفاصيل مداولاتها المغيّبة منذ توقيعه قبل أكثر من 34 سنة.

كثيرة هي المحطّات التي اختبرها اتّفاق الطّائف بعد انسحاب الجيش السّوري وانتفاء دور وصاية دمشق على بيروت، وهي محطّات استعصت على الحلّ من دون صدام أو تدخّلات خارجية. لبنان الذي اعتبر بعض رجالات الطّائف أنّه لم يبلغ سنّ الرّشد في تبرير لدور الوصاية وتدخّلاتها لحلّ أزمات الحكم فيه، لم يكبُر رغم شيخوخة أصابت كلّ مفاصله ومؤسّساته وقطاعاته المختلفة.

قبل انتهاء ولايته الرئاسية خاض العماد ميشال عون معركة تتصل بصلاحيات الرئاسة، على صعيد تكليف رئيس الحكومة وتشكيلته الوزارية وإمكانية سحب الترشيح، في حال عدم القدرة على التوصل إلى صيغة حكومية بالتوافق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، بغياب أي نصّ قانوني يحدّد المهل، وهي أزمات لم يعرفها لبنان في زمن الوصاية، ليس نتيجة لتفاهم الفرقاء اللبنانيين ووئامهم بل نظراً لوجود حاكم فعلي خارج الحدود يقرّر لهم فينفّذون. وليس في هذا الكلام أيّ افتئات أو اتّهام، بل هو كلام ورد على لسان من كانوا حلفاء سوريا في لبنان ورجالاتها وبعضهم ممّن لا زالوا أصدقائها، يردونها في معرض انتقاد ما آلت إليه أحوال غيرهم.

وفي معركة عون ضد رئيس الحكومة المكلّف حاول مخاطبة المجلس النيابي عبر رئاسته لكن رئيس المجلس نبيه بري انحاز إلى رئيس الحكومة، خصوصأً أنّ سجالاً دستورياً آخر دار بين عون برّي على خلفية حقيبة وزارة الماليّة وإسنادها إلى الطائفة الشيعية بحسب مداولات اتفاق الطائف التي لم يجد أحد إليها سبيلاً، ولم يقل أحد سوى الثنائي الشيعي بوجودها أصلاً. وتمسّك الثنائي الشيعي بحقيبة المالية رافضاً المداورة بين الطوائف في الحقائب، تحت شعار التوقيع الثالث في السلطة التنفيذية، بمعنى موافقة الطائفة الشيعية على أيّ مرسوم حكومي بما يشبه الرقابة على الوزارات، رغم أنّ اتفاق الطائف قال بصلاحية الوزير في وزارته، ولم يتحدّث عن دور وصاية أو رقابة من وزارة المالية. إلّا أنّ الثنائي الشيعي تمسّك بحقيبة المالية ورفض حتّى الخوض بإمكانية إسنادها إلى طائفة أخرى. وها هو الثنائي نفسه اليوم يتمسّك بمرشّح رئاسي ويرفض الخوض في إمكانية التفاهم حول خيار ثالث. كما لا يمكن هنا إسقاط تغطية الثنائي نفسه لجلسات حكومة تصريف الأعمال، وهي جلسات يرى فيها المكوّن المسيحي بأغلبه مخالفة للدستور الذي قال بممارسة الوزير مهام تصريف الأعمال بحدّها الأدنى فإذا بحكومة نجيب ميقاتي المستقيلة تمارس دورها بشكل شبه طبيعي، رغم مقاطعة عدد من الوزراء المسيحيين لجلساتها. وهي جلسات عمل البعض على إيجاد فتاوى لعملها. بحيث أصبح الدستور وجهة نظر بغياب النصوص التطبيقية التفصيلية.

كثيرة هي المسائل المبهمة في النّصوص، وهي غالباً تتطلب اجتهادات دستورية لا يجد بعض الفقهاء حرجاً بالعودة إلى دستور العام 1943 للخروج بصيغة حلّ أو باستنباط حلول لا أساس دستوري لها. يرتضي بها الفرقاء حين تناسبهم ويحاججون ضدّها حين تصبّ في غير صالحهم.

ولكن هل يُرتجى من تفاهم جديد على شاكلة اتفاق الدوحة الذي تمّ التوصل إليه في العام 2008 لوضع حدّ لأزمة استمرت 18 شهراً، أكثر من انتخاب رئيس. وهل من المفيد تصوير الأزمة اللبنانية على أنّها أزمة تقتصر على التوافق على رئاسة الجمهورية، واطمئنان هذا الطرف إلى الرئيس دون حرمان الطرف الآخر من حقّه في التمثيل في تركيبة النظام وقراره.

مبادرة لا تلحظ سبل مواجهة التّحدّيات المستقبلية دستورياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً هي مبادرة حلول مؤقّتة تطيل عمر المريض، ولكنّها لا تعالج المرض

يترقّب اللبنانيون اليوم حراكاً قطرياً، يراه البعض مكمّلاً للحراك الفرنسي وإن حمل تصوّرا مختلفاً، في وقت تبدو فيه المملكة العربية السعودية غير متحمّسة لتسوية سليمان فرنجية - نوّاف سلام، وهي لا ترى نفسها مضطرة حتّى تاريخه لتقديم أيّ مكافأة لفريق كانت تعتبره خصماً لها على الساحة اللبنانية حتى الأمس القريب، ودعمت الجبهة المضادّة له خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي أفرزت هذا المجلس الذي يعجز اليوم عن حسم المعركة الرئاسية لصالح طرف دون آخر.

ولا يختلف الموقف الأميركي كثيراً عن الموقف السعودي، مع العلم أنّه أصبح أقلّ ممانعة حيال خيار حزب الله الرئاسي، وإن لم يصبح من الدّاعمين له مع استبعاد هذا الأمر لأسباب أكثر من أن تُعدّ.

وإن كانت باريس تقول بضرورة وصول رئيس يطمئنّ له حزب الله إلى سدّة الرئاسة ولا تمانعه واشنطن لاعتبارات تتصل بالحدود اللبنانية الجنوبية البرّيّة والبحريّة التي من المقرّر أن تشهد لأول مرة نشاطاً يمكن وضعه في خانة المانع للمواجهات العسكرية. حيث من المقرر أن تنطلق عمليات الحفر والتنقيب عن النفط والغاز. واطمئنان الحزب هو ما يصفه خصومه بمكافأته على تسهيله ترسيم الحدود البحرية التي ضمنت لإسرائيل عملية استخراج وتصدير النفط والغاز من منصّاتها القريبة من الحدود. أمّا قطر فهي تريد العودة إلى لعب دور ما خارج حدودها، وهذا الدور المفترض لا بدّ وأن يتطلّب تميّزا لجهة ما يمكن أن يخرج به من حلول للأزمة اللبنانية المستعصية حتّى الآن، وهي وإن كانت الرئاسة الأولى عنوانها إلّا إنّها تستبطن العديد من العناوين التي لا تقلّ أهمّيّة عن رئاسة الجمهورية، فتسمية رئيس للحكومة وتكليفه وتشكيلته الحكومية وما يليها أو يسبقها ربّما، على صعيد حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. مع العلم أنّ المبادرة القطرية تروّج لوصول قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى سدة الرئاسة، ولكنّها لا تلحظ ما هي الفائدة المرجوّة لمختلف الفرقاء السياسيين في لبنان من هذا الترشيح. ومن البديهي ألّا تقتصر المبادرات المطروحة على سبل معالجة التركيبة السياسية، لأن المأمول منها هو أيضا العمل على وقف التدهور الحاصل على مختلف الصّعد متأثّراً بتراجع سعر صرف العملة المحلّية مقابل الدولار الأميركي، وانهيار القطاعات الإنتاجية والاقتصادية. مبادرة لا تلحظ كل هـذه العناوين وسبل مواجهة التّحدّيات المستقبلية دستورياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً هي مبادرة حلول مؤقّتة تطيل عمر المريض، ولكنّها لا تعالج المرض.

لبنان اليوم بحاجة لجرأة على صعيد وضع أسس نظام قابل للحياة والتطوّر والنموّ، لا البقاء في دائرة المراوحة والتسويف وتأجيل الاستحقاقات المصيرية. وربّما على قطر وباريس وواشنطن والقاهرة الدفع باتجاه تعاون سعودي إيراني لما لهذين البلدين من تأثير ومكانة عند اللبنانيين، لرعاية هكذا مؤتمر تأسيسي لمستقبل هذا الوطن المهدّد حالياً بالضياع. مؤتمر يترجم الاهتمام الدولي بلبنان واستقراره ويكون جوهره مصلحة هذا الوطن وبنيه لا مصالح الآخرين وما يضمن لهم تحقيقها من خلاله.