يُجمع العلماء على أّنّ المادة المظلمة (dark matter)، التي تشكّل 85% من الكتلة الكليّة للكون، غير مرئية بسبب عدم تفاعلها مع الضوء. لذا، يعكف هؤلاء على دراسة أثر الجاذبية الذي تمارسه تلك المادّة على نظيرتها المرئية بغية فَهمِها بشكل أعمق ومعرفة كيفية توزّعها على مستوى الكون. فاقتفاء أثر نشوء الأخير واستطلاع مستقبله من شأنهما أن يمرّا حتماً بسبر أغوار المادة المظلمة. ومن هنا نبدأ.

لإلقاء "الضوء" على المادّة المظلمة، عادة ما يلجأ العلماء إلى نظرية النسبية العامّة التي وضعها ألبرت آينشتاين في العام 1915. فوفقاً للنظرية، تتجلّى الجاذبية بانحناءات في نسيج الزمكان (space-time) – أي الوسط رباعي الأبعاد الذي يتألّف من ثلاثة أبعاد مكانية وبعد واحد زماني. والحال أنّه كلّما كَبُر حجم الكتلة الخاصّة بجسم ما (أكان بحجم كرة مضرب أو مجرّة)، كلّما زاد أثر الجسم – أي جاذبيته - على محيطه الزمكاني.

الأثر آنف الذكر يُحدَّد من خلال المسار الذي يتّبعه الضوء إبان مروره بالزمكان المُنحني. فحيث أن الضوء يسافر في خطّ مستقيم، تساهم الأجسام ذات الكتل بتحقّق انحناء في مسار الأخير في الزمكان المحيط بها – أي الواقع تحت تأثير جاذبيتها. وبما أنّ المادّة المظلمة تتمتّع بكتلة بدورها، فهي تتسبّب منطقياً بانحناء الزمكان المحيط وتؤثّر بصورة غير مباشرة على مسار الضوء فيه. وهي الظّاهرة التي تُعرف بعدسة الجاذبية (gravitational lensing).

أوّل الأدلّة على وجود المادّة المظلمة جاء في العام 1933 على يد عالم الفلك السويسري في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، فريتز زويكي. فمن خلال دراسة الضوء المنبعث من أكثر من ألف مجرّة، تمكّن زويكي من تحديد كتلة العنقود الذي تنتمي إليه تلك المجرّات بطريقتين مختلفتين. أوّلاً، استخدام سرعات المجرّات عن طريق قياس التغيّرات التي تطرأ على الضوء المنبعث منها؛ وثانياً، استخدام نسبة السطوع الكلّي للعنقود. وإذ قارن زويكي النتائج، توصّل إلى أنّ قياس الكتلة باستخدام سرعة المجرّة يشير إلى وجود كتلة أكبر بمئات المرّات قياساً بالكتلة التي حدّدها مستخدماً نسبة سطوع المجرّة. وهذا ما دفعه للافتراض أنّ المادّة المظلمة موجودة بكميات أكبر بكثير من المادّة المضيئة، الأمر الذي استمرّ العلماء برفضه إلى ما بعد وفاته في العام 1974.

شهر نيسان الماضي شهد إنجازاً ريادياً في هذا السياق. فقد نجح باحثون بالتعاون مع تلسكوب أتاكاما الكوني(ACT) في التشيلي بِوضْع الخريطة الكونية الأكثر تفصيلاً للمادة المظلمة تتوزّع عبر ربع السماء وتمتد إلى أعماق الكون. هنا، ثمة اعتقاد بأن المجرّات جميعها مغلّفة بهالة غير مرئية من المادة المظلمة. فعلى سبيل المثال، لولا وجود تلك المادة، لكان من شأن حركة دوران المجرّات فائقة السرعة أن تؤدّي إلى تطايرها لو هي كانت واقعة حصراً تحت تأثير نجومها والكواكب والغاز والغبار الكونيّين.

وهذا ليس بالتفصيل الثانوي. إذ إنّ جلّ ما يحيط بنا مصنوع من المادة "العادية" المكوّنة من الباريونات (Baryons)- وهي جسيّمات ذرّية مركّبة عبارة عن جزيّئات دون ذرّية ثقيلة مثل البروتونات والنيوترونات والذرّات العادية غير الباعثة للإشعاعات. فعندما تتفاعل القوة الكهرومغناطيسية (إحدى القوى الكونية الأربع) مع الأجسام المكوَّنة من مواد باريونية، تقوم الأخيرة بامتصاص الفوتونات الضوئية وإعادة إطلاقها (أو عكسِها)، ما يجعلها مرئية. وهذا ما لا ينطبق على المادة المظلمة التي إما لا تعكس الفوتونات بعد امتصاصها أو لا تمتصّها أصلاً أو تعكسها بصورة ضعيفة وغير ملحوظة.

في الدراسة أعلاه، التي نُشرت في دورية (The Astrophysical Journal)، قام الفريق البحثي بتتبّع كيفية تشويه جاذبية هياكل المادة المظلمة الضخمة لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background) – وهو الإشعاع المُتبقّي من الانفجار العظيم (Big Bang). فبعد حوالي 380000 عام على وقوع ذلك الانفجار، كان الكون شديد الحرارة والكثافة حيث بَرَد، مع تمدّده، الغاز بداخله ليمتلئ بذلك الإشعاع. وبالتالي، يعتقد العلماء أن دراسة الانحناء الذي تعرّض له الإشعاع الأوّل نتيجة عدسة الجاذبية، تتيح قياس طريقة توزّع المادة المظلمة. وهذا المرتجى من الخريطة.

تطوّر آخر ذات صلة حصل قبل أيام. وقد وُصف بالـ"اختراق" النظري الذي قد يفسّر الرابط بين المادة المظلمة والبنية واسعة النطاق للكون المعروفة بالشبكة الكونية (cosmic web). جاء ذلك في دراسة نُشرت في مجلة (Journal of Cosmology and Astroparticle Physics) أجراها باحثون من جامعة تورونتو. الدراسة تطرّقت إلى مشكلة التكتّل (clumpiness problem) القائمة على التوزيع المتساوي وغير المتوقع للمادة على امتداد الكون. واعتبرت أن في ذلك إشارة محتملة إلى تكوّن المادة المظلمة من جسيّمات افتراضية فائقة الخفّة تُدعى الأكسيونات (axions). فاستطلاعات المجرّات الضخمة بيّنت نقصاً في التكتّل، ما يتعارض مع النظرية السائدة والقائلة بتكوّن المادة المظلمة من جسيّمات دون ذرّية ثقيلة ضعيفة التفاعل حصراً (weakly interacting sub-atomic particles - WIMPs).

وفي التفاصيل، عمدت الدراسة إلى تحليل الخلفية الكونية الميكروية ومصدرها مسوحات بعثة بلانك 2018، وتلسكوب أتكامة الكوني وتلسكوب القطب الجنوبي. ثم قام فريق البحث بمقارنة البيانات بتلك المرتبطة بتحرّكات ما يزيد عن مليون مجرّة عن طريق مسح باريون الطيفي للتذبذب (Baryon Oscillation Spectroscopic Survey). والحال أن دراسة توزيع المجرّات ساهمت بقياس التقلّبات في كمية المادة المظلمة الموجودة في أرجاء الكون، مؤكّدة انخفاض تكتّلها مقارنة بما سبق وجرى توقّعه. وأعقب ذلك إجراء محاكاة حاسوبية لتوقّع ظهور بقايا إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، حيث تماشت الحسابات مع بيانات الإشعاع المتعلقة بالانفجار العظيم وتجمّع المجرّات. وهذا ما عزّز الاعتقاد بأن وجود الأكسيونات قد يجيب عن مشكلة التكتّل.

الأبحاث المستقبلية ستتوسّع لتطال مسوحات أخرى ورسم خرائط لملايين المجرّات توفيراً لقياسات أكثر دقّة للتكتّل. أما الآن، فإن وضْع الخريطة الكونية للمادة المظلمة وإدخال جسيّم الأكسيون في المعادلة قد يفتحان كوّة في جدار إثبات نظرية الأوتار (string theory). والهدف من الأخيرة كان ويبقى التوفيق الذي طال انتظاره بين نسبية آينشتاين العامة وميكانيكا الكم.