أشار تسريب استخباراتي حديث إلى أنّ الميليشيات المتحالفة مع إيران تقوم بتعزيز قدراتها الهجومية ضد القوات الأميركية المتمركزة في شرق سوريا. وقد أشارت بعض المعلومات إلى أنّ هذه الميليشيات تستعدّ لشنّ هجمات بواسطة الطائرات المسيّرة والصواريخ غير الدقيقة، إضافة إلى قيامها بتجربة معدّات عسكرية متطورة والتدريب عليها، كما استقدامها لصواريخ مضادّة للدروع من الجيل الرابع بهدف استخدامها ضدّ القوافل الأميركية المدرّعة.

جاء هذا التسريب تزامناً مع معلومات استخباراتية نُشرت في وقت سابق هذا العام في صحيفة Washington Post تفيد بأنّه تمّ إنشاء مركز مشترك للجيش العربي السوري والحرس الثوري الإيراني وميليشيات أخرى مرتبطة بإيران ومدعومة منها، وجميعها تحت إشراف ومظلة القوات الروسية، مهمته (أي المركز) تنسيق العمليات العسكرية ضدّ القوات الأميركية في شمال شرق سوريا.

ليس مستبعداً أن يأتي إنشاء هذا المركز كردّة فعل مباشرة على إقدام واشنطن، ولسنوات طويلة، على تنفيذ ضربات عسكرية انتقامية ضدّ القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها، ودعمها قوى المعارضة لإسقاط النظام في سوريا. غير أنّ استراتيجية طهران المتجدّدة جديرة بالملاحظة نتيجة الأسئلة التي تثار حولها لا سيّما تجاه الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة بعد مصالحتها الجديدة، وبرعاية صينية، مع المملكة العربية السعودية - البلد الأقوى اقتصادياً في المنطقة والحليف الأساسي للولايات المتحدة الأميركية.

فعلى مدى السنوات الثلاثة الماضية، أدّت الضربات المتتالية التي قامت بها الميليشيات الموالية لإيران ضد القوات الأميركية، لا سيّما بعد مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، إلى تقليص الولايات المتحدة لوجودها في المنطقة، حيث احتفظت بـ2500 جندي في العراق و بـ900 جندي في سوريا، كما سلّمت عدداً من قواعدها إلى القوات العراقية والكردية معيدة تصنيف مهامها لتقديم الاستشارات العسكرية والدعم الفني فقط لا غير.

يمكن لهذا التقليص أن يتماشى مع هدف واشنطن البعيد المدى لفك الارتباط أو خفضه إلى مستوى متدنٍّ في الشرق الأوسط، والتركيز على روسيا وعلى الصين – بالدرجة الأولى - كقوّة عظمى جديدة برزت مؤخراً، تتمدّد وتتوسّع بطريقة ثابتة في الساحة العالمية. لكن، رغم ذلك، استطاعت الولايات المتحدة، وبحذر شديد، الحفاظ على قبضتها في كل من العراق وسوريا، وسط حرب أوكرانيا وتصاعد التوترات مع الصين. فإنّ ما تسعى إليه الولايات المتحدة هو العمل على تصعيد عسكري كبير في المنطقة علّها تزعزع القوى العسكرية المتنامية.

وهكذا، تحرص واشنطن على الانتقام من أخصامها بالشكل الذي يناسبها، على أمل أن يكون ذلك رادعاً كافياً لإيران للحدّ من استراتيجيتها الكبرى المتمثلة في توسيع نفوذها من جبال "زاغروس" إلى البحر الأبيض المتوسط. إذ، ووفقاً لهذه الاستراتيجية، أقامت إيران علاقات اقتصادية وسياسية ودفاعية مهمّة مع القوى المحلّية المناهضة للسياسة الأميركية من أجل الحفاظ على نفوذها.

ببساطة، يُعتبر وجود القوات الأميركية في العراق وشرق سوريا عقبة كبيرة أمام تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإيرانية. من هنا كان على إيران أن تكون أكثر حذراً من ناحية عدم تصعيد الموقف تجاه الولايات المتحدة، خاصة أثناء المفاوضات النووية وخلال حملتها التي هدفت إلى تخفيف العقوبات عليها. كما كان من المفترض الابتعاد عن بثّ الرسائل إلى واشنطن عبر استخدامها طائرات بدون طيار وصواريخ موجهة على مواقع دفاعية أمريكية محصّنة، حتى لو كانت هذه الهجمات مدروسة من ناحية عدم إلحاق الخسائر في الأرواح ولا في المعدّات.

ومع تقليص واشنطن لعديد قواتها في الشرق الأوسط، تحاول القوى الفاعلة الإقليمية، والتي كانت بمعظمها شريكة للولايات المتحدة، التكيّف مع المصالحة الإيرانية السعودية تحت العباءة الصينية، سعياً منها لبناء هيكل أمني إقليمي جديد.

يعتبر وجود إيران ضرورياً لتحقيق أهداف بعض الدول التي ما زالت تعاني من الصراعات (مثل اليمن وسوريا والعراق)، بالرّغم من التنازلات التي قدّمتها إيران إلى المملكة العربية السعودية بشأن اليمن. لكنّ إيران لم ولن تستسلم للآمال الإقليمية في تقليص نفوذها في بلاد الشام، مفضّلة، بدلاً من ذلك، إحكام قبضتها على القوات المحلّية الموالية لها في هذه المنطقة.

في نهاية المطاف، ومع ازدياد الضغط على الولايات المتحدة وشركائها لإجراء انسحاب سريع من منطقة الشرق الأوسط، تسعى طهران إلى استغلال التحوّلات الجيوسياسية المستجدّة في المنطقة في ظلّ تراجع الوجود الأميركي في العراق وسوريا. وبعد اختبار ردود فعل الولايات المتحدة على الضربات الموجّهة ضدّ قواتها، تراهن إيران على أنّ ضرباتها الأحدث والأكثر فتكًا عن بعد، ستؤدّي حكماً إلى انسحاب أميركي في الوقت المناسب يغنيها عن المواجهة المباشرة معها.

فهل ترضخ واشنطن وتسحب قواتها من المنطقة وتترك الساحة لخصومها. وهنا لا بدّ من التنبّه إلى ما تختزنه هذه المنطقة من نفط وغاز في ظلّ ما يعانيه العالم من أزمات في ظل ازدياد الطلب على مصادر الطاقة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية. وهل تترك أميركا إسرائيل لمواجهة مصيرها من دون حماية أو حضانة خصوصاً بعدما تعطّل قطار التطبيع مع العالم العربي؟

لذا وقبل الحديث عن انسحاب عسكري أميركي من المنطقة لا بد من الإجابة على ما سلف.