الحقّ بالتعلّم الذي كفله الدستور اللبناني وشدّدت عليه مختلف الأعراف والمواثيق الأممية يواجه في لبنان خطراً حقيقياً.
سُئل وليّ أمر تلميذ متواضع الحال في معرض النقاش عن واقع التعليم في لبنان: "شو رماك على مُرّ دولار أقساط المدارس الخاصّة"؟ فأجاب: "تعطّل المدرسة الرسمية الأمرّ منه"! حوار من جملتين كفيل بتلخيص المشهد التربوي للعام القادم، الذي بدأ يتفتّق باكراً على صراع قضائي بين الأهالي والمدارس الخاصّة. فالأخيرة "دولرت" أقساطها تحت ضغط الحاجة، وتماشياً مع المقولة اللبنانية الساخرة "شو وقفت عليي"، والأهالي يتذمّرون ويعترضون بشتّى الطرق نتيجة العجز عن الدفع بالدولار.
في حادثة قد تفتح باب الخلاف على مصراعيه بين المدارس الخاصّة والأهالي من جهة، وبينهما وبين الأساتذة من الجهة الأخرى، حكم قاضي الأمور المستعجلة في النبطية، أحمد مزهر، بعدم قانونية تقاضي إحدى المدارس الخاصّة القسط بالدولار. وذلك بناء على استدعاءٍ من أحد أولياء الأمور في المدرسة.
بين القانون والواقع
القانون رقم 515 المتعلّق بتنظيم الموازنة المدرسية، ووضع أصول تحديد الاقساط المدرسية في المدارس الخاصّة غير المجانية، يمنع عليها تقاضي الأقساط بغير العملة الوطنية. إنّما من الجهة الأخرى "فليشرح لنا القاضي كيف سُمح لوزير الطاقة تسعير التعرفة بالدولار، وكيف أجيز لوزير الاقتصاد وضع أسعار السّلع بالدولار، ولماذا لم يُمنع وزير الاتصالات من دولرة تعرفة الاتصالات الخلوية، والأرضية على خطاها تسير"، يسأل نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض مستهجناً. أكثر من ذلك "فليجيبنا القاضي كيف يتقاضى هو، وكل القضاة 500 دولار من صندوق التعاضد شهرياً"، يضيف محفوض. ليخلص إلى أنّه "عندما يصل الأمر إلى الأقساط، تعلو الاعتراضات. من دون أن يعني ذلك تبرير بعض الأقساط الخيالية. إنّما الحد الأدنى من الأقساط المنطقية الكفيلة بتصحيح رواتب الأساتذة، التي ما زالت تحتسب على 1500 ليرة. حيث لا يتخطّى راتب الأستاذ الثانوي حامل إجازة الماجستير المليون و500 ألف ليرة، في حين أنّ الحدّ الأدنى للأجور 9 ملايين ليرة".
واقع الأقساط والرواتب
باستثناء عدد قليل من المدارس الخاصّة التي عادت فيها الأقساط إلى ما كانت عليه قبل الانهيار، فإنّ أقساط أغلبية المدارس الخاصّة للعام الدراسي 2023/2024 تمثّل بالدولار 40 في المئة مما كانت تتقاضاه في العام 2019. "ونحن نضغط لكي تنعكس هذه الإضافات، زيادة مماثلة برواتب الأساتذة"، يقول الأستاذ في التعليم الخاص، النقابي نقولا غصين. فالأستاذ الذي كان يتقاضى راتباً قدره 3 ملايين ليرة في العام 2019 تعادل 2000 دولار، يفترض أن يتقاضى في العام القادم حوالي 800 دولار نقداً بالإضافة إلى الراتب بالليرة اللبنانية". وبحسب غصين فإنّ "نسبة الدولار من الرواتب لم تتجاوز هذا العام 15 في المئة، وكانت أعجز عن تلبية أبسط المتطلّبات الحياتية. خصوصاً في ظلّ الدولرة الشاملة في مختلف القطاعات، بدءاً من الغذاء، وصولاً إلى الاستشفاء، مروراً بالنّقل والكهرباء والاتصالات والخدمات". وبرأيه فإنّ "دولرة الأقساط في المدارس الخاصّة تصاعدية وستصل بعد سنوات قليلة إلى 100 في المئة مما كانت عليه قبل الأزمة. ومن المفترض أن تزداد أجور الأساتذة بنسبة مماثلة".
الأهالي يعانون
من جهتها اعتبرت المستشارة القانونية لاتحاد هيئات لجان الأهل في المدارس الخاصة المحامية مايا جعارة، "أنّه بات من الضروري أن يتدخّل المشترع لوضع ضوابط صارمة. لأنّ السياسة المعتمدة للسنة المقبلة من قبل إدارات المدارس تُجمع على إضافة زيادات كبيرة على الاقساط تتخطّى قدرات عدد كبير من أهالي التلامذة". وبرأيها فإنّ "المطلوب اليوم أكثر من أيّ وقت مضى تفعيل دور لجان الأهل وتكريس حقّ كل لجنة أهل في مدرستها بالاطّلاع على كامل الموازنة، وعلى كامل الزيادات، وتثبيت حقّها بالموافقة أو رفض الموازنة المطروحة عليها، كون لجنة الأهل أدرى بقدرات الأهل في مدرستها".
عجز لجان الأهل
إلّا أنّ المشكلة التاريخية مع لجان الأهل في المدارس الخاصة "تتمثّل في أنّها أثبتت بالتجربة عجزها عن لجم الزيادات لأسباب عديدة"، تضيف جعارة، "نذكر منها: قلّة الخبرة، الضغط النفسي، الإحراج، وعدم وجود جهة رقابية مع تعطيل المجالس التحكيمية التربوية. وعليه، لم يعد مقبولاً مع كلّ المآسي التي يعاني منها الأهل أن نبقى ندور في حلقة مفرغة. فوزارة التربية عاجزة، ولجنة التربية النيابية غير فاعلة، والتعيينات معطّلة بسبب النكد السياسي".
الخطر المتزايد
الحقّ بالتعلّم الذي كفله الدستور اللبناني وشدّدت عليه مختلف الأعراف والمواثيق الأممية يواجه في لبنان خطراً حقيقياً. خصوصاً في ظلّ معاناة المدرسة الرسمية، وعدم قدرة الأهالي على تحمّل عبء الأقساط في المدارس الخاصة. وهو الأمر الذي يتطلّب من وجهة نظر جعارة، وضع الأنا جانبا والانتقال نحو خطوات فعّالة وعملية مثل:
- وضع معايير واضحة وشفّافة تساعد للوصول إلى الحلّ الأمثل لمعضلة الأقساط.
- البحث مع الجهات المانحة في المجال التربوي بإمكانية تقديم مساعدات للأهالي في القطاع التربوي الخاص للوصول إلى الغاية المنشودة.
- تعامل المدراس الخاصّة بشفافية مع الجهات المانحة عبر تقديم "داتا" واضحة وحسابات تبيّن الحاجة وأسبابها ونسبتها.
- التعاون بين إدارات المدرسة، ونقابة المعلّمين واتحادات لجان الأهل لإقناع هذه الجهات بجدوى المساعدة. "إذ إنّ الجهات المانحة غير مقتنعة بحاجة المدارس الخاصّة للمساعدة"، تقول جعارة. "وهذا ما يلحق بالأهل ضرراً كبيراً ويحمّلهم منفردين عبء القسط المدرسي. وهو أمر غير منطقي في بلد يرزح أكثر من 80 في المئة من شعبه تحت حدّ الفقر، ويتعلّم أكثر من 70 في المئة من تلامذته في المدارس الخاصّة".
بحسب العلوم التطبيقية فإنّ الاقتصاد يصحّح نفسه بنفسه. وهذا ما يبدو جليّاً من واقع مختلف القطاعات الانتاجية والخدماتية في لبنان. ولاسيما على صعيد الأسعار والأجور. إنّما ما لا تذكره النظريات هو كلفة التصحيح، والجهة التي تسددها. وفي حالتنا المذكورة فإنّ تلامذة لبنان هم من سيدفعون الثمن المباشر. حيث ستتناقص تدريجياً أعداد المنتسبين إلى المدارس الخاصّة، فيما المدرسة الرسمية عاجزة عن تقديم البديل الجدّي والفعّال. فيما سيدفع الاقتصاد الثمن غير المباشر، اختلالاً وتراجعاً في قدرات ومستوى أبنائه الاكاديمية على المدى البعيد، مع كل ما ترتّبه من عجز عن المنافسة في الأسواق الخارجية وتراجع بالمداخيل والخلق والإبداع والمساهمة في النموّ والتنمية.