لطالما تخيّل الإنسان الكنوز الدفينة التي تحتويها المحيطات والبحار وسَحَرَته، إلّا أنّه كان عاجزاً معظم الوقت من سبر أغوارها، إذ تشير الدراسات بأنّ الإنسان لم يستطع اكتشاف أكثر من 5 % من المحيطات التي تحتوي على 97% من مياه الكرة الأرضية.

دعونا نتخيّل بأنّ المحيط عبارة عن وعاء كبير يمكن تصريفه من خلال فتحة واحدة، ودعونا نستبعد أيضا حقيقة أنّ الماء الخارج من فتحة واحدة سيكون عرضة للضغط الهائل المتشكّل من كمّية الماء المتواجدة فوقه، خاصّة وأنّ التقديرات تشير إلى أنّ الحجم الكلّي لمياه المحيطات يبلغ حوالي 1.3 مليار كيلومتر مكعب. فهل يمكن أن تتصور كم نحتاج من الوقت لإفراغ المحيط كاملاً.  ولكن إذا حدث ذلك، هل يمكنك تخيّل الأسرار والكنوز التي يمكننا استكشافها؟

تكمن بعض الأسرار الأكثر إثارة للاهتمام في العالم في محيطاتنا. والآن، يتم استكشاف بعض هذه المواقع الرائعة بتفاصيل غير مسبوقة في سلسلة لناشيونال جيوغرافيك تحت عنوان " تجفيف المحيطات"، وهي عبارة عن مسلسل وثائقي أسترالي وبريطاني. ويبدو من خلال الحلقات الجديدة أنّ السلسلة مقبلة على اكتشافات مذهلة بفضل عالم جديد تماماً من التقنيات المبتكرة.

تكشف سلسلة Drain the Oceans عن أشباح الماضي تحت الماء بكل مجدها المذهل، حيث تتم إزالة الماء من الصورة لتروي هذه المشهدية قصصاً تشرح العجائب الطبيعية أو تلك الكوارث التي صنعها الإنسان. تجمع السلسلة بين أحدث البيانات العلمية المتعلقة بأنظمة المسح الرقمي تحت الماء، وأحدث تقنيات التصوّر الرقمي الفني والتصميم الجرافيكي لتكشف أسراراً من حول العالم، منها في بحار الصين وخليج المكسيك والبحر الأبيض المتوسط والنيل وحافة المحيط الهادئ والمحيط الهندي والمحيط الأطلسي وبحر البلطيق. وكل ذلك بهدف البحث عن إجابات لأسرار دفينة في أعماق المحيطات.

ولأوّل مرة، بفضل هذه السلسلة، يمكننا أن نرى كيف تبدو هذه الأماكن على نطاق واسع، وبوضوح لم نصل إليه مع أحدث تقنيات التصوير التقليدي تحت الماء.

يستخدم Drain the Oceans مجموعة من البيانات - من مسح السونار لقياس الأعماق إلى لقطات الفيديو والقياس التصويري - مع رسومات متطورة تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر لإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد عالية الدقّة لقاع محيطاتنا وبحيراتنا وأنهارنا.

تسمح هذه العملية لصانعي الأفلام بإعادة تخيّل وتصوير المعجزات والكوارث الطبيعية وحطام السفن والآثار القديمة وغيرها من القطع الأثرية البشرية التي يمكن العثور عليها في قاع البحر - والكشف عنها بتفاصيل غير مسبوقة، كما لو كانت على اليابسة.

يستخدم صانعو السلسلة نفس التقنية لشرح تهديدات الزلازل تحت الماء والانفجارات البركانية وأمواج تسونامي العملاقة التي تصيب الملايين من الأشخاص الذين يعيشون حول المحيط الهادئ، بالإضافة إلى الكشف عما يعتقد أنها بقايا نيزك ضخم في خليج المكسيك قضى على الديناصورات قبل آلاف السنين، كما يتم استخدام هذه التقنية للبحث في شبكة الكابلات تحت الماء في آسيا التي تعتبر حيوية لتشغيل الإنترنت، واستكشاف بقايا المدن القديمة الغارقة في البحر الأبيض المتوسط وعجائب مصر القديمة المفقودة.

اعتقدنا سابقاً أن التصوير تحت الماء هو قمّة التقدم التقني، ويبدو أنه كان البداية فقط.

في عالم التصوير المائي وبهدف الوصول إلى أعماق البحار، نحتاج آلة عملاقة – قد تكون غواصة تزن عشرة أطنان أو مركبة تعمل عن بعد (ROV)، بحجم شاحنة تقريبا يتم تجهيز الكاميرات خارجها.

في حال الغواصة، يجلس المصور داخل القمرة ويقوم باستخدام مجموعة من أجهزة الكمبيوتر المحمولة وأذرع التحكم اليدوية لتدوير الكاميرا وإمالتها وتركيزها وتعريضها. أما في حال ROV، فيجلس فريق في غرفة تحكم على متن السفينة الأم ويناور بالمركبة الآلية ويتحكّم بالكاميرات التي ترسل إشاراتها من خلال 3000 متر أو أكثر من كوابل الألياف الضوئية!

أعطت نتائج التصوير تحت الماء أفضل صور عن قرب لمخلوقات أعماق البحار، وكشفت النقاب عن بعض أفضل الأسرار المحفوظة في العالم، ومع ذلك لم يكن هذا سوى قطعة من اللغز. فالآن، يمكنهم ببساطة تجفيف المحيطات.

فمن خلال الجمع بين الاستكشاف تحت سطح البحر والتصوّرات المبتكرة، يكشف Drain the Oceans عن أدلّة خفية وألغاز مذهلة تحت سطح البحر، وهذه ليست مجرّد تصورات وهمية، بل ما هو موجود بالفعل - وصولاً إلى أدقّ التفاصيل. وفي موسمها الرابع، وبفضل التقنيات الحديثة والتطوّر العلمي، تحتضن السلسلة أسلوباً جديداً وجذاباً، يروي القصص من خلال عوالم المستكشفين وعلماء الآثار مما يضع المشاهدين إلى جانبهم مباشرة، وكأنّهم هناك.

حلقة Drain the Oceans  التي تم بثها في كانون الثاني "يناير" 2023 تحت عنوان "ناركوس"، ومن خلال خاصية الوصول في الوقت الفعلي إلى خفر السواحل الأمريكي، سلّطت الضوء على القصة غير العادية لكيفية تهريب العصابات المكسيكية للكوكايين إلى الولايات المتحدة على مدار ال 40 عاما الماضية ، لكن السلسلة الرئيسية ارتكزت على 3 أحداث تاريخية رئيسية:

  1- غرق إتش إم إيه إس سيدني

المشهد الأكثر دموية في تاريخ البحرية الأسترالية. وقعت المعركة بين السفينة الأسترالية "HMAS Sydney" والطراد المساعد الألماني "كورموران" في 19 تشرين الثاني 1941 قبالة ساحل أستراليا الغربية.

تم تدمير السفينتين، ولم يكن هناك من ناجين من البارجة الأسترالية والبالغ عددهم 645 فردا، لكن تم إنقاذ 317 من طاقم كورموران.

مع فقدان إحداثيات مواقع الحطام لعقود، بدأ ديفيد ميرنز، أحد أفضل الباحثين عن الحطام في العالم، دراسة المعركة في عام 2001. بحلول عام 2008، انضم إلى الحكومة الأسترالية لتعقّب الدلالات التي أصبحت بحوزته حتى عثر على السفينتين.

وبفضل تجهيزه بتقنية المسح الجديدة، تمكّن من استكشاف السفن المحطّمة وتقديم أدلّة على الصّراع المميت الذي أدّى إلى استقرارها في قعر البحر على عمق أكثر من كيلومترين. كان الغوص مستحيلاً، لذا أرسلوا مركبة تعمل عن بعد (ROV) لاستكشاف الحطام. ونظراً لوجود الكثير من التفاصيل التي أظهرتها كاميرا ROV تحت الماء، لجأ الفريق إلى استخدام بيانات المسح الضوئي مع الصور التي تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر بهدف تجفيف المحيط الهندي والكشف عن تفاصيل جديدة للسفينة. هذا مكّنهم من جعل السفينة الأسترالية التي عرفت ب "فخر الأمّة" مرئية لأوّل مرة منذ أكثر من 70 عاماً بعد غرقها.

  2- حطام سفينة مونتيري

لا يُعرف سوى القليل عن حطام سفينة مونتيري، التي تقبع في قاع البحر قبالة خليج المكسيك على عمق تقريبي يبلغ 1.3 كيلومتر، وهذا ما جعل الوصول إليها من المستحيلات، لكن ذلك يعني أيضاً أنّها محفوظة بشكل جيد بسبب انخفاض درجة حرارة الماء التي تعتبر باردة عند هذا المستوى. لذلك، أطلق الخبراء "ROV" إلى قاع البحر، وبعدها، قاموا "بتجفيف المياه المحيطة بالسفينة على أمل اكتشاف ما وتسليط الضوء على ما كانت عليه وكيف أصبحت مستلقية في قاع البحر ومن كان على متنها، وكل ذلك كان يعتبر أحد أكبر الغاز البحار على الإطلاق.

هذه العملية بيّنت أنّ قوس السفينة لا يزال سليماً، ولا تزال المرساة معلّقة، وأنّ الألواح الفولاذية والبنادق لا تزال مرئية. وكان هذا مجرد غيض من فيض من الاكتشافات المتتالية.

  3- روبرت إي لي

أثناء إجراء مسح لخطّ أنابيب النفط باستخدام "ROV"، صادف عالم الآثار البحرية "روب تشيرش" حطاماً لسفينة، حيث قام بجمع البيانات التي حصل عليها قبل أن يقرّر العمل مع فريق تجفيف المحيط، ويكشف عن تفاصيل غير عادية ويقدّم أدلّة جديدة حول اللحظات الأخيرة لسفينة "روبرت إي لي".

اكتشف الفريق أنّ جسر السفينة قد اختفى، وهذا يدلّ على أنّ الجسر كان غير قادراً على تحمّل قوى السحب والضغط أثناء غرق السفينة في الماء، وكان بإمكانهم رؤية مدفع سطح السفينة على المؤخرة لا يزال في وضعية الأمان، مما يشير إلى أنّ الهجوم كان مفاجئاً وغير متوقّع.

كان يرقد بجانب الحطام قاربا نجاة، وهذا في الواقع يدلّ أيضاً على أنّه لم يكن هناك من وقت لإطلاقها، يعتقد الخبراء أنّ الأمر استغرق ثلاث دقائق فقط قبل غرق السفينة بالكامل.

يبدو أن Drain the Oceans هو مجرّد بداية لاستخدام التكنولوجيا بهذه الطريقة.