سنوات قليلة قد تُتيحها التبدّلات العالمية على صعيد المناخ أمام لبنان للاستفادة من ثروته النفطية؛ إن وُجدت. فمع دخول العالم "حمى" تخفيض انبعاثات الكربون بنسبة 45 في المئة في العقد الثالث من هذا القرن، وصولاً إلى تصفيرها كلّيّاً في حلول العام 2050، فإنّ كلّ سنة تأخير ستبعد بلد الأرز أكثر عن دخول "جنّة" الدول النفطية وتحقيق عوائد مادية مجدية. وبحسب التحليلات الجيوسياسية فإنّ أسعار النّفط كانت لتبقى منخفضة لولا الحرب الروسية على أوكرانيا في شتاء العام الماضي، دافعة نحو تقليص فرص الاستثمار في القطاع.
ضيّع لبنان ما لا يقلّ عن 21 عاماً للبدء باستكشاف ثروته النفطية البحرية، ووقتاً أطول بكثير بالنسبة لتلك البرّية. باكورة المسوحات الزلزالية في البحر تعود إلى العام 2002. حين رجحت شركة "سبكتروم" إمكانية وجود مكامن نفطية. ليتبعها بعد أعوام قليلة مسح أكثر جدية في المياه الإقليمية اللبناني القبرصية، أكّد احتمال توفّر كمّيات تجارية من النفط والغاز. وعلى الأثر بدأت عملية ترسيم الحدود البحرية، فنجحت مع قبرص سريعاً، وفشلت مع إسرائيل. وذلك على الرغم من اتفاق الحكومة اللبنانية في العام 2011 المرسوم 6433، على الخط 23 كحد فاصل بين لبنان وإسرائيل بحرياً. ومع هذا بقي الملف معلّقاً لغاية العام 2020، حين أعلن عن التوصل إلى اتفاق الإطار لإعادة إحياء المفاوضات بوساطة أميركية، بقيادة آموس هوكشتين. وبعد الكثير من الأخذ والرّد نتيجة ظهور الخط 29 الذي يعطي لبنان مساحة بحرية أكبر بكثير، وُقّع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل في 27 تشرين الاول 2021، بموازاة متعرجة للخط 23.
تأخّر التنقيب
على الرّغم من توقيع عقد التنقيب عن النفط والغاز مع كونسورتيوم نفطي بقيادة توتال الفرنسية، وعضوية كل من "نوفاتيك" الروسية (استبدلت بشركة قطر للطاقة في كانون الثاني 2023)، و"إيني" الايطالية في العام 2018، إلّا أنّ عمليات الاستكشاف الجدّية لم تبدأ بعد. وقد اقتصرت على حفر بئر يتيم في البلوك رقم 4 (بيبلوس) في العام 2020، لم يتضمّن وجود كميات تجارية. ومع استفحال أزمة كورونا، ودخول لبنان مرحلة تمديد المهل، وتأخّر التوصّل إلى اتفاق مع إسرائيل لغاية مطلع العام الحالي، لن تبدأ عمليات الحفر في البلوك رقم 9 (حقل قانا) إلّا مع نهاية العام 2023. وفي أحسن الحالات فإنّ عمليات الاستكشاف، ومن ثم الاستخراج والتصدير لن تقلّ عن 7 سنوات. عندها يكون العالم قد بدأ يسرّع خطواته للاستغناء تدريجياً عن الوقود الأحفوري لصالح الطاقات المتجدّدة، فتتراجع الأسعار وتنخفض العوائد وتذهب كل الآمال سدى.
الذكاء الصناعي والنفط
أمام هذ السيناريو يرى خبير النفط والغاز فادي جواد أنّ "على لبنان الضغط على الشركات المنقّبة لتوظيف الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence، في عمليات الحفر والاستكشاف. الأمر الذي يوفّر سنوات طوال على لبنان". وبحسب جواد فإنّ "باستطاعة لبنان الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الجديدة في هذا المجال. وهي التكنولوجيا التي أعلنت عنها عملاق النفط "شل" الأسبوع الماضي. حيث أفضى التعاون مع إحدى شركات التكنولوجيا "سبارك" SPARKCOGNITION، إلى تقصير مدّة التنقيب والاستكشاف في بعض المناطق النفطية من تسعة أشهر إلى تسعة أيام". وبرأي جواد فإنّ "لبنان أعوز ما يكون في هذه المرحلة للاستفادة من التقدّم التكنولوجي على كافة المستويات لتسريع عمليات البحث والاستكشاف والاستخراج. والحكومة اللبنانية ملزمة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بمطالبة الشركات التي ستتقدم بطلبات الاستكشاف بالبلوكات الثمانية البحرية باستخدام الذكاء الصناعي". ولاسيّما أنّ لبنان فقد من وجهة نظر جواد "ترف الوقت ليمدّ مرحلة التنقيب والتطوير والإنتاج والتصدير إلى ما بين ٥ و٧ سنوات بالحدّ الأدنى".
تقصير المهل
الاستفادة من الذكاء الاصطناعي وتسخير التكنولوجيا الحديثة "قد تخفّض مراحل العملية النفطية من سبع سنوات إلى ثلاث بالحد الأقصى"، برأي جواد. "فالشركات النفطية العالمية تنفق ما يقارب 30 مليار دولار على التقنيات الحديثة. ولاسيما تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي". وبمثال توضيحي عن النقلة النوعية التي قد يحدثها الذكاء الاصطناعي في المجال النفطي في مختلف المجالات "أطلعنا المدير التنفيذي لشركة "موديرنا" خلال دراستي في "هارفرد"، أنّهم صنّعوا لقاح كورونا خلال يومين"، يقول جواد. "واللقاح الذي كان يتطلب عدداً طويلاً من السنوات، أنجز بيومين فقط. وقد استفادت الشركة المصنعة من الداتا الضخمة المتوفرة، والخوارزميات الحديثة لمعالجة وافر المعلومات للتوصّل إلى اللقاح".
السباق مع الوقت
إدخال الذكاء الاصطناعي في مجال النفط والغاز سيُحدث ثورة بكلّ ما للكلمة من معنى، وسينقل عمليات الاستكشاف والتنقيب إلى مراحل متسارعة. "خصوصاً أننا أمام تحديات في مجال النفط والغاز، حيث ستشهد المرحلة القادمة وصولاً إلى العام 2050 انخفاضاً هائلاً بالطلب على مصادر الطاقة الأحفورية بسبب الانتقال المتسارع إلى الطّاقة البديلة، والقرارات الدولية لتخفيف الانبعاثات في العالم". وعلى الدولة اللبنانية "أخذ قرارات فريدة من نوعها والطلب من الكونسورتيوم العامل حالياً في البلوكين رقم 4 و9 استعمال التكنولوجيا المتطورة في عمليات الاستكشاف، ومعالجة البيانات الناتجة عن المسوحات الزلزالية والثلاثية الابعاد.
"سبارك كوغنيشن" تعتبر واحدة من مئات الشركات التكنولويجية العاملة في هذا المجال التي يمكن للبنان الاستفادة من خبراتها. ذلك إلى جانب الكفاءات اللبنانية العاملة في أهم الشركات العالمية في مجال النفط والغاز. ما يمكّن الدولة من اتخاذ القرارات الصائبة، وتحقيق نقلة كمية ونوعية في عمليات البحث والاستكشاف عن النّفط والغاز.