عن ذلك سمعنا وقرأنا وشاهدنا الكثير. نتحدّث عن احتمال وجود مخلوقات من عوالم أخرى تشاركنا الكون، كما نعرفه، من عدمه. مِن قصص الأديب والفيلسوف السوري، لوقيانوس السميساطي، قبل 2000 سنة إلى سلسلة أفلام Star Wars وما بينهما وبعدهما. تساؤلات مفتوحة على كل الاحتمالات قاربت المسألة – ولا تزال - بعيون علمية، فلسفية وأدبية. فهل، لا بل متى، تأتينا "إشارة" قَطْع الشكّ باليقين؟
البحث ذات بُعدَين. إمّا إماطة اللثام عن حياة ميكروبية ما، في ثنايا النظام الشمسي، أو العثور على إشارات منبعثة من حياة ذكية ناشطة في مكان بعيد. المئوية الأخيرة من عمر البشر شهدت على برامج عدة ترمي إلى تلمّس وجود كائنات ذكية خارج كوكب الأرض (Search for Extraterrestrial Intelligence - SETI) يأتينا على شكل إشارات راديوية. والسبب الذي يجعل العلماء يظنّون بأن أشكال الحياة الذكية تلك تتواصل عبر موجات الراديو، هو قدرة الأخيرة على السفر لمسافات طويلة بحدّ أدنى من التفاعل مع الغبار والغاز الكونيين.
من بين أبرز البرامج البحثية تلك، هناك برنامج Breakthrough Listen الناشط بحثاً عن أدلّة ذات صلة في السنوات العشر المقبلة، مستهدفاً مئة مليون من أقرب النجوم إلينا بواسطة تلسكوبات تتوزّع بين أستراليا وجنوب إفريقيا. إضافة إلى معهد SETI Institute الباحث بدوره عن ذكاء خارج كوكب الأرض بواسطة نظام نبضات الليزر.
لكن ثمّة إشكالية هنا. فما يحتاج إليه العلماء لتأمين التواصل الفضائي إنّما يدخل عامِل الضوء في صميمه. ومعلوم أنّ سرعة الضوء محدودة بـ 300000كم في الثانية. كما أنّ البشر لم يبدأوا باستعمال موجات الراديو للتواصل إلّا بداية القرن العشرين. ففي عملية حسابية، سافرت أولى تلك الإشارات مسافة 122 سنة ضوئية لغاية الآن ليصل مداها إلى ما لا يتخطى 15 ألف نجم من أصل نحو 400 مليار من النجوم التي تشتمل عليها مجرّة درب التبانة. ناهيك بأنّ الإجابة على تلك الرسائل الراديوية تستغرق وقتاً، حيث أنّ أياً من النجوم التي تقع على مسافة تفوق 50 سنة ضوئية عنّا، مثلاً، لم يصلنا ردّها بعد.
لكن مع ذلك، فإن مجرّد تخيّل أعداد المجرّات (بالتريليونات) والنجوم (بتريليونات التريليونات) إنما يجعل من افتراض اعتبارنا المستوطنين الوحيدين لهذا الكون شبه معدوم. بل ثمّة من يذهب إلى القول باحتمال وجود عشرات آلاف الحضارات الخارجية على أقلّ تقدير.
على أي حال، ماذا عن رغبة تلك الكائنات – إن وُجدت وأينما حلّت - بإيجادنا والتواصل معنا؟ ورقة بحثية صدرت نهاية العام الماضي لم تستغرب أن تكون كواكب مثل الأرض مملّة بِنظرها. فقد يكون اهتمامها مصبوباً بالأحرى على تلقّي إشارات حول أشكال حياة متطوّرة تكنولوجياً وليس فقط بيولوجياً. عالم الفيزياء الفلكية في الجامعة العبرية بالقدس، أمري فاندل، اعتمد في معرض تحليله على مفارقة فيرمي (Fermi Paradox) التي تفترض التالي: نظراً إلى عمر الكون (حوالي13.8 مليار سنة)، قد تكون الكائنات الفضائية طوّرت فعلاً قدرات السفر الطويل. وهو ما يزيد من احتمال زيارتها للأرض في مرحلة سابقة ما. فهل في عدم زيارتها لنا دليل على عدم وجود حياة ذكية في مجرّتنا، أو هل هي زارتنا بالواقع قبل أن نطوّر قدرات لرصد تلك الزيارة – أو الزيارات؟
كل شيء ممكن. نُسلّم للحظة أن ثمة حضارات ذكية تبعد عنّا أكثر من 50 سنة ضوئية ونُقحم الموجات الصادرة عن شبكات الهاتف الخليوي من ضمن أدوات البحث. والسبب في ذلك هو اعتقاد عدد من الخبراء بإمكانية أن يكون بوسع حضارات خارجية استقاء بيانات الأرض بواسطة أبراج الاتصالات الخليوية والتي تضاعفت كمّاً في العقود الأخيرة.
الكلام هنا عن أحد المصادر الرئيسة لـ"تسرّب" موجات الراديو الأرضية. والمقصود بالـ"تسرّب" هو بلوغ الموجات تلك الغلاف الأيوني للأرض "الأيونوسفير" - أي طبقة الغلاف الجوي المؤيّنة بفعل الإشعاع الشمسي والكوني والتي تمتد على ارتفاع 75-1000 كيلومتر فوق سطح الأرض. فبالأرقام، يبعث كل برج من أبراج الاتصالات الخليوية إشارة راديوية بقوة 100-200 وات، ما يعادل 4 غيغاوات على مستوى أبراج الكوكب مجتمعة، بحسب دراسة لباحثين من جامعتي مانشيستر وموريشيوس نُشرت حديثاً في مجلة Monthly Notices of the Royal Astronomical Society Journal.
وهذا يدلّ على ما يلي: إذا كان بحوزة حضارة خارجية ما تكنولوجيا رصدية معيّنة توازي من حيث القدرة مصفوفة الكيلومتر المربّع Square Kilometer Array المزمع الانتهاء من إنشائها سنة 2028 بين جنوب إفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا لقياس الأشعة الكهرومغناطيسية المنبثقة من أعماق السماء، سيكون بمقدور تلك الحضارة التقاط نشاط الجيل الرابع من أجيال الاتصالات اللاسلكية الخليوية الأرضية. هناك من يقول إن على الكائنات تلك التواجد في بقعة لا تبعد أكثر من 8 سنوات ضوئية عن الأرض لتحقّق ذلك. لكن مع توسّع رقعة استخدام جيل الاتصالات الخامس الأكثر فعالية، قد يصبح رصْدنا من مسافات أبعد ممكناً.
وإذ إن الشيء بالشيء يُذكر، فسبب عدم اكتشافنا – ظاهرياً أقلّه - لكائنات فضائية، بحسب بحث حديث لمختبر الفيزياء الحيوية الإحصائية في لوزان السويسرية نُشر في مجلة The Astronomical، مردّه إلى تواجد الأرض في فقاعة صادف خلوّها من أي موجات راديو منبثقة عن حياة خارجية. النصف الممتلئ من كوب التفاؤل في البحث يخبرنا عن الحاجة إلى 60 سنة على الأقل قبل الوقوع على إشارة فضائية ما. والنصف الفارغ منه يستدعي الانتظار لأكثر من 2000 سنة أخرى.
كثرٌ، في الأثناء، يتساءلون إن كان الأمر يستحقّ عناء الانتظار. بيد أن باكورة الإجابات قد تفاجئنا بأسرع مما كنا نتوقّع.