يصادف متصفّحو مواقع التواصل الاجتماعي، يومياً، عشرات المنشورات التي تُعلن من خلالها المطاعم والشركات والمتاجر الكبيرة منها وحتّى الصغيرة، عن حاجتها للعمّال من مختلف الفئات العمرية والمستويات العلمية.
"يلزمنا شاب/شابة للعمل"، عبارة تكاد تكون عنوان "عجيبة" من عجائب بلدٍ، يرزح المقيمين فيه منذ اواخر الـ 2019، تحت تأثير أزمة اقتصادية هي الأولى من نوعها في تاريخ لبنان، ورغم ما تعانيه البلاد من بطالة وفقر وأزمات متواصلة، ترى بعض شبابه يفضّلون المكوث في المنزل على العمل (عملٌ بلا عُمال)!
ويصادف متصفّحو مواقع التواصل الاجتماعي، يومياً، عشرات المنشورات التي تُعلن من خلالها المطاعم والشركات والمتاجر الكبيرة منها وحتى الصغيرة، عن حاجتها للعمال من مختلف الفئات العمرية والمستويات العلمية.
عيّنة عن الوظائف المطلوبة ورواتبها
واحدٌ من أكبر وأهمّ الأفران العاملة في لبنان، ينشر إعلاناً عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، طالباً عمّالاً بدوام عمل 8 ساعات يومياً وفي مجالين مختلفين، وبعد التواصل مع المعنيين تبيّن لنا أنّ الوظيفتين بنفس الراتب (12 مليون ليرة يضاف إليها 50 دولار أميركي "فرش" بدل نقل)، ما يقارب مجموعه الـ 177 دولار أميركي، في حال لم يتجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية، الـ94 ألف ليرة كما هو حاله اليوم.
متجر آخر لا يقبل صاحبه إلّا البيع بالدولار الأميركي "الفرش" أو ما يتجاوز سعره بالليرة في السوق الموازية، ولكن عند الوصول إلى رواتب العمّال يظهر تعصّبه للتعامل بالليرة اللبنانية، فمقابل دوام يومي يتجاوز الـ9 ساعات، يدفع لكل موظف صالة أو محاسب ما لا يتجاوز الـ 20 مليون ليرة لبنانية شهرياً.
إقتصادياً: المكوث في المنزل "أربح"
إقتصادياً، وبعيداً من الحدّ الأدنى للأجور، يطالب عمّال القطاع الخاص "براتب يوازي القدرة الشرائية" وهذا يعتبر منطقياً وعادلاً، فعمّال المصانع يطالبون أرباب العمل برواتب تساوي الانتاجية، أي بمعنى إذا كان "راتب أحدهم يساوي 10 سلع ينتجها المصنع قبل الأزمة، فإنهم يطالبون بقيمة الـ10 سلع اليوم".
وترى مصادر "الصفا نيوز" الاقتصادية أن "وقاحة" أصحاب المصالح الخاصة في عرض هذا القدر من الرواتب نابع من أنّ الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام اليوم عبارة عن 9 ملايين ليرة لبنانية، مشيرةً إلى أنّ هنالك فعلاً من هو مضطرّ للعمل مقابل هذه المبالغ الزهيدة.
وتوضح المصادر نفسها، أنّ الاخطر اليوم هو عمل الشركات بالقطاع الاسود (بلا ضمانات أو استشفاء) فيفضّل حينها العامل البطالة على العمل، فكلفة أيّ وعكة صحّية تتجاوز الراتب على أشهر، مشدّدةً على أنّ من يقبل بالرواتب المعروضة حالياً يكون بلا أية فرصة أخرى، وسكنه قريب من مكان العمل.
وتكشف أنّه مع تفاقم الازمة الإقتصادية أكثر فأكثر بات الشباب اللبناني يفضّل الرّبح السريع و"الفرش" (فرش دولار)، من خلال التسويق الالكتروني والذي بلغ ذروته بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا مطلع العام 2020، بالإضافة إلى صعود نجم التطبيقات الالكترونية مثل "تيك توك" وغيرها.
علمياً تتعدد الأسباب والبطالة واحدة
بحسب الباحثة في الانثروبولوجيا والإعلام الدكتورة ليلى شمس الدين، أسباب عديدة تدفع الأشخاص لرفض أنواع معيّنة من العمل على الرّغم من حاجتهم الماسّة للوظيفة، أوّلها تتمثّل بالرواتب، فدائماً ما يبحث الفرد عن الراتب الأعلى. وثانياً "بوست العمل" أي مكانته في العمل والتي يعتبر الموظّف أنّها تلبّي مهاراته واهتماماته بالدّرجة الأولى.
النساء وبعض "الأفراد الملونين" يتوزعون بشكل غير متناسب في وظائف منخفضة الأجر أو المكانة
وتشير شمس الدين لـ"الصفا نيوز"، إلى أنّ "العديد من الأبحاث تلقي الضوء على الدور المهم الذي تلعبه المعتقدات المجتمعية في تشكيل مواقف الأفراد تجاه العمل، وتأثير ذلك على رفاهيتهم ومجتمعاتهم، فضلاً عن تطوير المجتمعات نفسها لمفاهيم خاطئة حول العمل ومشاعر الدونية لوظائف معيّنة، من خلال التسلسلات الهرمية الاجتماعية التي تلعب دوراً حاسماً لجهة كيفية تقييم العمل في المجتمعات المختلفة".
وتضيف: "يُنظر في العديد من الثقافات، إلى أنواع معيّنة من العمل على أنّها أكثر شهرة من غيرها، وقد يًمنح الأفراد الذين يعملون فيها مكانة اجتماعية مرموقة واحتراماً أكبر. وعلى العكس من ذلك، يتم التقليل من قيمة العمل الذي يُنظر إليه على أنه قذر أو وضيع أو متدني القيمة".
وتتابع شمس الدين لـ"الصفا نيوز": "يتقاطع الجنس والعرق والأشكال الأخرى للهوية الاجتماعية مع المعتقدات حول العمل والمكانة"، موضحةً كيف أسفر كل ذلك وتجلى من خلال تطبيق التمييز العنصري والجندري داخل الوظائف. فالنساء وبعض "الأفراد الملوّنين" يتوزعون بشكل غير متناسب في وظائف منخفضة الأجر أو المكانة.
كذلك، تعدّد شمس الدين آثار البطالة السلبية على الفرد والمجتمع والتي من الممكن أن تؤدّي إلى:
- عزلة اجتماعية
- اكتئاب
- زيادة معدّلات الجرائم
- تعاطي المخدرات هرباً من التفكير بالعجز
- توتّر داخل الأسرة بسبب الضغوط المالية
- عدم الانخراط في الأنشطة الاجتماعية بسبب القيود المالية
- فقدان المهارات مما يجعل من الصعب على الأفراد العودة إلى سوق العمل
في المقابل، توضح شمس الدين أنّ هناك عوامل عدّة تجعل بعض الناس يفضّلون البقاء عاطلين عن العمل على الرغم من حاجتهم للمدخول المادي وتتمثّل في:
- نقص الحوافز: تتلخّص في افتقار بعض الأشخاص إلى الدّافع للعثور على وظيفة أو عمل خصوصاً إذا ما شعروا أنّهم لا يمتلكون المهارات أو الخبرة اللازمة للتوظيف، أو في حال الرضى بالعيش من خلال المساعدات أو دعم أفراد العائلة والأصدقاء.
- تدنّي احترام الذات: يؤثّر هذا الأمر على قدرة الأشخاص في العثور على وظيفة، أو حتّى استعدادهم لتحمل مسؤوليات العمل، فيعتقدون أنّهم ليسوا كفوئين أو أنّهم سيفشلون في الوظيفة، ما يجعلهم متردّدين حتى في المحاولة.
- نوعية حياة أفضل: قد يفضّل الأفراد البقاء عاطلين عن العمل لأنّهم يعتقدون أنّ ذلك يتيح لهم التمتّع بنوعية حياة أفضل، فيخصّصون المزيد من الوقت للهوايات أو الأنشطة الأخرى التي تجلب لهم السعادة وتساهم في رفاههم.
- مشاكل الصحّة الجسدية أو العقلية: الأشخاص الذين يعانون من ألم مزمن أو لديهم إعاقات تحد من قدرتهم على أداء مهمات معينة.
- نقص الوظائف المتاحة: يرغب الأفراد في العمل ولكنهم غير قادرين على إيجاد فرص عمل مناسبة، وقد يكون ذلك بسبب سوق العمل الضعيف، ونقص فرص التعليم والتدريب والتمييز.