المكتبات الدولية زاخرة بالدراسات والكتب والمنشورات عن إعادة تقسيم الدول العربية. لكنّ العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يتّعظون من العبر، ولا يعملون كيفية إحباط الخطط، إذا كانت صحيحة أم مجرّد "مؤامرة" أو نظريات. لا بل يعمدون إلى صبّ الزيت على نار مواد الاحتراق في مجتمعاتهم لتتفاعل مع ما يدبّره لهم غيرهم، لتصير حدود الأوطان والكيانات هشّة وعرضة للانهيار في أي لحظة. وتسقط الحدود، ليس سعياً إلى الوحدة أو التكامل بين مكوّنات متشابهة، بل من أجل تفتيت المفتّت أصلاً وتجزئة المجزّأ.


كثيرون كتبوا عن التقسيم: برنار لويس، اوديد ينون، رالف بيترز، جيفري غولدبرغ، رؤوبين شيلواح، ومعظمهم مقرّبون من دوائر صنع القرار، أكان في البنتاغون أو الموساد أو العواصم الكبرى. لكن بعض من قرأهم لم يأخذ ما كتبوه في الاعتبار، لا بل وصفوا كتاباتهم بأنّها هديّة للأنظمة العربية الحاكمة، لتخويف مواطنيها بذريعة وجود "مؤامرات" خارجيّة تهدف إلى التقسيم، وأنّ انظمتهم تحمي وحدة الأوطان! 

لا تتشابه خططهم لكنّها لم تكن كلها تنبّؤات افتراضية أو خيالية. رياح التقسيم لفحت المنطقة من زمان ولا تزال نشطة. أكراد العراق ينتظرون اللحظة الحاسمة لإعلان دولة كردستان المستقلة، بعدما صارت مكتملة الأوصاف وتملك المطارات والجيش وسلطة الحدود والحكومة والموازنة. الصومال تفكّك عام 1991 ولايزال مفكّكا وصار فعليا ثلاث دول: الصومال وأرض الصومال وبونت لاند. سوريا حلّت بها النّكبة الكبرى وصارت أطرافها متباعدة عن بعضها البعض ويعاد رسم خريطتها السكانية، وترتفع فيها حدود جديدة تفصل شرق نهر الفرات عن غربه، والمنطقتين انقطع تواصلهما مع دمشق، فيما إسرائيل تحتلّ الجولان وتركيا تبتلع لواء اسكندرون. حال اليمن ليس بأفضل، هناك سعي لوقف حربه المدمّرة لكنّ الأواصر بين الشمال والجنوب لاتزال مقطوعة، وكل الاحتمالات واردة، بما فيها تكريس وجود دولتين أو أكثر في الوطن الواحد. ليبيا، أعادت الحرب فيها تجزئتها، صار لطبرق وبنغازي في الشرق حكومتها والبرلمان، كذلك الأمر لطرابلس الغرب، فيما فزان في الجنوب تنتظر من يتخذ القرار فيها بعيداً عن شركائها في الوطن. في الجزائر أسطوانة التقسيم بين شمال عربي وجنوب أمازيعي تتوقف ثمّ ما تلبث أن تدور مجدداً. كذلك تصرّ فئات واسعة من الصحراويين على الانفصال عن الرباط.

 

أمّا في السودان فحكاية التقسيم مسلسل يطول ويطول، جوبا انفصلت عن الخرطوم وأخذت معها جنوب السودان إلى الاستقلال. اليوم تدور حرب الغاء بين رجلين وجيشين صنّف كلّ واحد منهما نفسه ولياًّ لأمر السودانيين. هذه الحرب ليست بين تيارين سياسيين يختلفان على مستقبل البلاد، وليست بين غالبية مسلمة تريد فرض شريعتها على الأرواحيين والمسيحيين كما حدث في الجنوب، ولا حرب عرقية بين عرب وأفارقة على غرار نزاع دارفور، ولا انقلاب عسكري على غرار انقلابات العسكر العادية. إنّها حرب صفرية بين رجلين يستميتان للتفرّد بالسّلطة. المعارك الدائرة اليوم ليست سوى الجولة الأولى من الحرب الأهلية قد تنتهي بتقسيم جديد للبلاد إلى كيانات متنافسة وتشرّع الأبواب لكلّ تدخّل خارجي.

في حفل تكريمه عام 2010، تغنّى الرّئيس السابق للموساد مائير داغان بـ "الإنجازات" التي تمكّنت استخباراته من تحقيقها في عهده. قال إنّه يفخر بأنّ انفصال جنوب السودان عن السودان، الدولة الأم، قد تمّ بعد جهود استخباراتية إسرائيلية مكثفة بدأت منذ عام 1956. وأضاف "لقد استغلّت إسرائيل كلّ العوامل المفرّقة بين الشمال والجنوب السوداني لتحقيق هدفها في تمزيق دولة عربيّة كبيرة كانت ولا تزال لها مواقف عدائية تجاه الدولة العبرية".

إسرائيل لم تصنع المشكلة بين جوبا والخرطوم، هي استغلّتها وشجّعت عليها بالواسطة او بالمباشر. أصل المشكلة في الحالة السودانية هي الاستبداد السياسي المطلق الذي تسبّب بحروب داخلية واهتزازات خارجية وكوارث اقتصادية واجتماعية وحكم عسكري وتزمّت ديني وقبضة حديد أنتجت بالضرورة حالة تقسيم غير مسبوقة، أودت إلى الطلاق والتفكّك، وستودي إذا ما استمرت إلى المزيد من التفكّك والتجزئة.

لا شيء تغيّر في السودان منذ انفصال الجنوب، لا بل على العكس تفاقمت الأزمات وتشعّبت وتعمّقت، وزاد يأس الشباب بعد احباط الثورة الشعبية.  والوقائع الملموسة على الأرض اليوم تزيد من مخاطر التفتيت، وتشكّل أساساً لخطط جديدة بل لخرائط جديدة فعلية في المنطقة. في السودان كما في معظم الدول العربية تحضر كل المغذّيات الضرورية للتفكّك والانحلال: الفوضى الناجمة عن سقوط أنظمة وعدم إقامة بديل ديموقراطي، تنامي التطرف واستشراء الفساد والقتل المجاني وانتشار الموت.


وخارج السودان ومن حوله دول تتربّص وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض، فهناك واحدة من أكبر الساحات الأفريقية التي تتقاطع على أرضها مصالح دول كبرى ومتوسطة. هناك الذهب الذي يسيل لعاب أكبر العواصم والشركات العالمية. هناك أكبر سواحل البحر الأحمر الذي صار ممراً أساسياً للتجارة الدولية وموقعاً استراتيجياً في صراع الكبار. هناك المدخل الشرقي لأفريقيا خزان الموارد الطبيعية للعالم. أفريقيا التي صارت ملعباً مفتوحاً للصراع الدّولي بالوكالة، والذي بلغ ذروته في حرب أوكرانيا وتبلور تحالفات جديدة بين الغرب الذي تقوده واشنطن من جهة، ومن جهة أخرى، الصين وروسيا اللتين تتقاربان بسرعة حتى يكادان يصيران محوراً.  هناك يعشعش الإرهاب وتنظيماته التي صارت أداة لبعض الدول لمدّ نفوذها، أو تهديد قوى منافسة أخرى.

في زمن التغيرات الكبرى.

ما يجري في السّودان قد يتكرّر في أي دولة عربية في لحظة. لكن هل من يقرأ ويتعلم من العبر؟