تعلّمت المنظومة يوماً، الهروب من المشاكل، فأضحت عادة. إلّا أنّ ما كان يصحّ أيّام الاحتضان الدّولي للبنان، و"تكحيل" أزماته بمؤتمرات الدّعم، و"جبر خاطره" بودائع ملياريه في مصرفه المركزي.. لم يعد ممكناً اليوم. فلسان حال المجتمع الدولي "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم". وخزائن المصرف المركزي "تصفّر"، بعدما كانت عامرة بأكثر من 50 مليار دولار قبل عقد من الزمن. ومع هذا، فتح مسلسل الهروب فصلاً جديداً بزيادة الرواتب للقطاع العام، واستمرار دعمها بسعر تفضيلي على منصّة صيرفة، ليدبّ الهروب بالأربعة، بدلاً من الجري على الرجلين فقط.
في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء التي عقدت في 18 نيسان الحالي، أُقرّ سبعة رواتب لموظفي القطاع العام على مختلف مسمياتهم الوظيفية. وبعد أقلّ من عشرة أيام أصدرت وزارة المالية بياناً أكّدت فيه احتساب الرواتب على أساس صيرفة 60 ألف ليرة، استثنائياً، وليس على أساس سعرها الحقيقي 86500 ليرة كما جرى الاتفاق، نظراً لعدم إمكانية تطبيق المرسوم على مستحقّات شهر أيار التي تسدّد بآخر نيسان. وبهذا ضاعفت الخسارة. فهي مضطرّة من جهة للطلب من مصرف لبنان تمويل الزيادة المقدّرة قيمتها بين 12 و15 ألف مليار ليرة لمدة شهرين. ومن الجهة الثانية تحويل الرّواتب الحالية إلى الدّولار على سعر صرف يقلّ بنسبة 40 في المئة عن سعر الصّرف الحقيقي. والمركزي بطبيعة الحال سيؤمّن الأموال من طباعة الليرات، وسيسجّل خسارة تحويلها إلى دولار في بند "الأصول الأخرى"، أي الخسائر التي يمكن تعويضها لاحقاً. وهو البند الذي سينفجر لاحقاً إنّ لم يكن راهناً في وجه جميع اللبنانيين. حاملاً معه سعر الصّرف إلى مستويات خيالية، تقوّض كل الزيادات الهزيلة التي تعطى بكلفة خيالية.
الزودة مؤجلة إلى أيار
قبل انتهاء شهر نيسان بأيّام قليلة أصدرت وزارة الماليّة بياناً، قالت فيه "بما أنّ تسديد الرواتب الاضافية التي اقرّها مجلس الوزراء في 18/4/ 2023 وفقاً للمرسوم الاشتراعي رقم 11227 (اعطاء تعويض مؤقت لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين الذين يستفيدون من معاش تقاعدي)، و بما أنّ العمل يبدأ بهذا المرسوم وفقاً للرواتب والأجور العائدة لشهر حزيران والتي تسدّد نهاية شهر أيار، لذلك، وحفاظاً على عدم تدهور القدرة الشرائية لدى العاملين في القطاع العام نظراً للتطور في سعر الصّرف، تفيد وزارة المالية أنّها وبالتنسيق مع مصرف لبنان، قد بدأت اليوم بتسديد كامل رواتب القطاع العام العائدة لشهر أيار 2023 على سعر صرف 60 ألف ليرة لبنانية، استثنائياً لحين العمل بالمرسوم المذكور أعلاه".
وأضاف البيان، "ويشمل ذلك رواتب القضاة والعسكريين وموظفي الوزارات والادارات العامّة والمؤسسات العامّة لا سيما اوجيرو وكهرباء لبنان والمستشفيات الحكومية وتعاونية موظفي الدولة وغيرهم، إضافة إلى معاشات المتقاعدين من القطاع العام".
إضاءات البيان
اللافت في بيان المالية ثلاث نقاط أساسية:
- الأولى أنّ مستحقات شهر أيار التي تدفع في نهاية نيسان ستدفع وفقاً لما أقرّته موازنة 2022 أي ثلاثة رواتب وليس سبعة، وستحتسب على أساس صيرفة 60 ألف ليرة.
- الثانية، شمول القضاة مع موظفي القطاع العام ما يعني أنّ مستحقاتهم ستقبض على صيرفة 60 ألفاً وليس 15 ألف ليرة.
- الثالثة، أنّ رواتب الشهر المقبل المضاعفة 7 مرّات ستحوّل إلى الدّولار على أساس سعر صيرفة الحقيقي مهما كان من دون زيادة أو نقصان.
الاضراب مستمر
أمام هذا الواقع الذي ينذر بالأسوأ، خصوصاً في حال ارتفع سعر الصّرف على منصّة صيرفة خلال أيار القادم عن 86500 ليرة، قالت رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر إنّ الاضراب مستمر. ذلك أنّ مطالب الموظفين أبعد من ذلك بكثير وهي تتعلّق بتأمين حد أدنى كافٍ لأصحاب الرواتب المتدنية جداً، الذين لم تتجاوز الزيادة لهم الـ 50 أو 60 دولاراً، قبل المحسومات التي تتراوح بين 11 و15 في المئة. ويصل عدد هؤلاء إلى 80 في المئة من موظفي الإدارة العامة الأكثر غبناً ومظلومية. في المقابل وصلت الزيادة لأصحاب الرواتب الفلكية، وهم طبعا من خارج الإدارة العامة، إلى 50 مليون ليرة لبنانية. وعليه جدّدت نصر من خلال موقع "الصفا نيوز" مطالب موظفي الإدارة العامة، وأهمها:
1- تثبيت الرواتب على سعر منصّة عادلة لحمايتها من التدهور اليومي، ودمجها في أساس الراتب كي تدخل في احتساب المعاشات التقاعدية، وتعويضات الصّرف التي ترفض الحكومة لغاية تاريخه البحث في إعادة احتساب ما سدّد منها، بعدما خسرت 97 في المئة من قيمتها.
2- تطبيق المبدأ القانوني الذي ينصّ على التماثل بين الموظفين بالخدمة وبين المتقاعدين الذين تتعرض حقوقهم للاقتصاص الممنهج.
3- تأمين التغطية الطبية والاستشفائية.
4- أن يغطّي بدل النقل الكلفة الحقيقية، ويكون مرتبطاً بسعر البنزين وبالمسافة التي تفصل الموظف عن مركز عمله.
والمفارقة أنّ هذه الآلية قد اعتمدت للموظف الذي يقوم بمهمة خارج عمله، حيث أعطي مبلغ 15 ألف ليرة عن كل كلم يقطعه. فليطبق المبدأ ذاته على الموظف الذي يأتي للقيام بمهامه داخل الإدارة.
وبحسب نصر فإنّ "هناك ثغرات كثيرة لا مجال لتفصيلها، نختصرها بوجود الفصول الأربعة والخمسة والعشرة تحت سقف واحد. فيما كل ما نطالب به هو الكفاية والعدالة. وهو ما سنعرضه اليوم في اجتماع مع رئيس الحكومة".
للمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية يتدنى راتب السواد الأعظم من موظفي القطاع العام عن الحد الأدنى للأجور، المحدد مؤخرا بـ 9 ملايين ليرة، حتّى مضاعفة الرواتب 7 مرات. وهذا هو مكمن الخطر الثاني بعد كلفة الزيادات بالمقارنة مع حجم الاقتصاد وواردات الدولة. وهو الأمر الذي يقود إلى الاستنتاج أنّ الحلّ يكمن في البدء بتطبيق الإصلاحات وإعادة هيكلة القطاع العام وإلّا فإنّ الهروب إلى الأمام سيظلّ سمة الاقتصاد غير الفعالة. وعلى حد قول الشاعر نزار قباني" لو كانت المشاكل تحلّ بالهروب، لكانت الكرة الأرضية كوكب مهجور".. فهل من يسمع!