ازمة السودان اليوم تكمل حزام النّار الملتفّ حول العنق المصري. تعيش القاهرة أسوأ انكشاف لأمنها القومي الاستراتيجي في العصر الحديث، بعدما أحيطت بحزام من النار من كل الاتجاهات، ترافق مع أزمة اقتصادية ومالية اجتماعية هي الأصعب منذ عقود. حتى حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كان هناك تهديد واحد ورئيسي اسمه إسرائيل. الآن صار هناك أكثر من ٢٠ تهديداً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً فى جميع الاتجاهات الاستراتيجية.
المواجهة المسلّحة بين الجيش النّظامي السّوداني، بقيادة رئيس مجلس السّيادة الانتقالي، الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوّات الدّعم السّريع، بقيادة نائب رئيس المجلس الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مشكلة لا يمكن حصرها بالشّأن الداخلي السّوداني، ذلك أنها تعيد طرح أسئلة عدّة في شأن موقع السّودان الجغرافي والسّياسي، فأطماع دول كبرى وإقليمية في هذا البلد الغني، قد تجعله ساحة من ساحات الصّراع بين القوى المتنافسة المجاورة والبعيدة. هنا، يتداخل البعدان الدّولي والإقليمي مع البعد المحلّي في الصّراع الدّائر، الأمر الذي يرخي بتداعياته الثّقيلة على المنطقة، ولا سيّما مصر.
أزمة السّودان هي أيضا معضلة لمصر، وكلّما طالت واتّسعت، كلّما أرخت بظلال سود على القاهرة وتحوّلت إلى عبءٍ ثقيلٍ. من الواضح أنّ مصر تنسّق مع الجيش السّوداني. الجنود المصريون الذين أسرتهم مؤقّتا قوّات الدّعم السّريع في مروي كانوا هناك للمساهمة في تدريبات عسكرية مشتركة بين البلدين.
مصر لا تستطيع أن تشهر دعمها للبرهان، نظراً إلى التّعقيد الشديد الذي ينطوي عليه المشهد السياسي في السودان، فضلاً عن التشابه الصارخ بين التطورات التي شهدها البَلدان في الفترة الأخيرة. كان لمصر ثورتها وكان للسودان ثورته. أسقطت الثورة المصرية حسني مبارك في العام 2011، بينما أسقطت الثورة السودانية عمر البشير في العام 2019، وكان للعسكر دور حاسم في إسقاط النظامين. أحبط الجيش في مصر الانتقال إلى الديمقراطية، وهو ما يثير مخاوف مبرّرة لدى النخبة السياسية في الخرطوم حيال أن يشجّع الجيش المصري نظيره السّوداني على أن يتبع النهج نفسه.
يدّعي الجيش السّوداني أنّه لن يوقف عملية التحوّل الديمقراطي، لكن القوى المدنية، لا تصدّقه ولديها مخاوف حيال التّورط المحتمل للجيش المصري. ولو حدث هذا التورّط فهذا يعني توسّع الصّراع وتحوله من صراع محلّي سوداني إلى صراع إقليمي. سبق للقاهرة أن دعمت الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، لكنّه فشل، وتتحمّل مصر اليوم معه وزر الفشل. ولو حدث العكس وأحجمت القاهرة عن التدخّل لتركت السودان ساحة سائبة يتلاعب بها الآخرون، وفي مقدّمهم أثيوبيا وإسرائيل اللتين لن تفوّتا أي فرصة لجعل السودان صداعاً جديداً ومؤلماً للقاهرة. ولعلّ الأمر الأخطر ما لمّح إليه الأمين العام السابق لجامعة الدّول العربية عمرو موسى من أنّ مصالح مصر ودول عربيّة قد تتعارض في السودان..
ازمة السودان اليوم تكمل حزام النّار الملتفّ حول العنق المصري. تعيش القاهرة أسوأ انكشاف لأمنها القومي الاستراتيجي في العصر الحديث، بعدما أحيطت بحزام من النار من كل الاتجاهات، ترافق مع أزمة اقتصادية ومالية اجتماعية هي الأصعب منذ عقود. حتى حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كان هناك تهديد واحد ورئيسي اسمه إسرائيل. الآن صار هناك أكثر من ٢٠ تهديداً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً فى جميع الاتجاهات الاستراتيجية.
الأمن القومي لأي بلد قضية على درجة عالية من الحساسية والخطورة. فهو يدخل في صميم وجوده وسلامته ومصالحه العليا. وهو لا يعرف الأهواء والتقلّبات في النظر إلى التهديدات المحتملة والمخاطر الممكنة.
الأمن القومي المصري تحكمه الجغرافيا الفريدة لمصر، وهذه الجغرافيا قد تكون نعمة وقد تكون نقمة. وصفها نابليون بونابرت بأنها " دولة فى العالم، من يمسك بمقاديرها يسيطر عليها ". وفق الدكتور جمال حمدان صاحب «عبقرية المكان» فإنّ مصر إذا خرجت إلى محيطها تقوى وتنهض، وإذا ما انكفأت داخل حدودها ضعفت وتفكّكت.
بالحقائق الجغرافية والتاريخية هناك قضيتان محوريتان من حيث حجم الأخطار والتهديدات:
- الأولى حماية الحدود شرقاً حيث إسرائيل والقضية الفلسطينية، وقد أنشئت إسرائيل لأسباب استراتيجية استهدفت عزل مصر عن المشرق العربي، وهي لا تزال تعمل على ذلك بكل ما أوتيَت من قوة ومن دعم غربي.
- الثانية سلامة نهر النّيل جنوباً، وهذه مسألة وجودية تتعلّق بشريان الحياة .
منذ عقد اتّسع طوق النّار واكتمل حول عنق مصر. مرّة يشتعل غرباً ومرّة شرقاً، مرّة شمالاً ومرّة جنوباً. في الشرق، تبقى غزة نقطة توتّر لا تهدأ بفعل الإصرار الإسرائيلي على انتهاك حقوق الفلسطينيين ومنعهم من إقامة دولتهم المستقلّة. وإلى الغرب هناك ١٢٠٠ كيلو متر من الحدود مع ليبيا، التي تعيش منذ سقوط نظام معمّر القذافي عام ٢٠١١، حالة تشرذم واقتتال نمت في ظلّه جماعات مسلحة وميليشيات مدعومة من دول بعضها لا يريد لمصر لا الاستقرار ولا الهدوء. ليبيا كانت العمق الاستراتيجي لمصر، اليوم صارت اليد التي توجعها.
أمّا في الجنوب الشرقي فإنّ حريق اليمن جعل هذه الحدود ملتهبة أيضاً، وجعل البحر الأحمر ساحة صراع جديدة للنفوذ الأجنبي بعدما كان بحيرة عربية صرف. اليوم يشتعل الجنوب الأقرب في السودان، وأول المتضررين هو مصر. من أكثر الأمور التي تهدّد مصر والمنطقة، هي أن يتحوّل السودان إلى ليبيا جديدة أو صومال جديد، وأن تكون هناك أجيال جديدة من المقاتلين والمرتزقة والتدخّل الأجنبي. تداعيات الاقتتال في السودان تمسّ في القلب القضايا المهمّة لمصر، وخصوصاً قضيّة سدّ النهضة، فقد كانت مصر تنسّق بصورة دائمة مع السّودان، من أجل وقف المشاريع الإثيوبية في مياه نهر النيل. تفكّك السودان يفقد مصر حليفاً مهمّاً، وستكون مضطرّة إلى التّعامل مع دويلاتٍ، وهذا ما يفرّقها أكثر ممّا يجمعها، وهو ما سيكون له أثره ليس فقط على ملفّ مهمّ، مثل ملفّ نهر النيل، إنّما أيضا من شأنه جعل الأمن القومي قطعة قماش بالية ورثّة، لا تستُر العورات.