بعدما "شَرب" مصرف لبنان على مدار السنوات "بحر" الودائع لتمويل نهج سلطوي فاسد، هل "يغصّ" بابتلاع "ساقية" الدولارات الطازجة؟ السؤال الافتراضي هذا فرضه التعميم الأساسي الموجه إلى المصارف تحت الرقم 165، الصادر في 19 نيسان الحالي، والمتعلّق بعمليّات التّسوية الالكترونية العائدة للأموال النقدية، والأخيرة بتعريف المركزي هي "الأموال التي حُوِّلت من الخارج، أو تم تلقّيها أوراقاً نقدية (Banknotes) بالعملات الأجنبية بعد تاريخ 17 تشرين الثاني 2019"، أي "فريش" دولار. "والأموال المودعة أو التي ستودع أوراقاً نقدية جديدة بحسابات الليرة".

في الظاهر يبدو التعميم 165 تنظيمياً يهدف إلى تسهيل عمل المصارف في ما يتعلّق بالتّحاويل والمقاصّة الخاصّة بـ الأموال النقدية. إنّما في الباطن "يحمل مخاطر محتملة على الدولارات الطازجة، ويعرّضها للضياع كما ضاع قبلها أكثر من 140 مليار دولار"، يقول المستشار المالي د. غسان شمّاس. "حيث تحوّلت ودائع المصارف بالدّولار في المصرف المركزي بين عشية ليلة 17 تشرين الاول 2019 وضحاها، إلى "دولار محلّي" بحسب توصيف الحاكم، "لولار"، لا تساوي اليوم أكثر من 15 في المئة من قيمتها السّوقية، وحبل انخفاضها أكثر، على جرّار التضخّم المفرط.

التاريخ يكرّر نفسه

اليوم يكرّر المصرف المركزي المحاولة نفسها للاستيلاء على الدولارات الطازجة لتمويل الانهيار، إنّما بطريقة مبتكرة جديدة. فمع استحالة إقناع المصارف، حبّياً، بوضع الدّولارات الطازجة لديه، والمقدّر حجمها بين 8 و10 مليارات دولار، قرّر إجبارها من خلال التعميم 165 المُمَوّه والمبني على "تطوير أنظمة الدفع في المركز الرئيسي لمصرف لبنان (BDL - NPS) لتشمل خدمة تحويل ومقاصّة وتسوية "الأموال النّقديّة" الكترونياً. حيث تنصّ المادة 4 من التعميم على التالي:

على المشتركين كافّة، أي المصارف، في نظام (BDL -NPS) التقيّد بالإجراءات التالية:

فتح حسابات جديدة لدى مصرف لبنان بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي مخصصة، حصراً، لإجراء جميع العمليات المتعلّقة بمقاصّة الشّيكات والتّحاويل الإلكترونية الخاصة بـ الأموال النّقديّة خلال مهلة أقصاها 10 أيار 2023. ويتمّ تكوين أرصدة هذه الحسابات على الشّكل التّالي:

- إيداع أوراق نقدية لدى مديرية العمليّات النّقدية في مصرف لبنان مخصّصة لتغذية الحسابات الجديدة بالليرة اللبنانية.

- إيداع أوراق نقدية لدى وحدة العملات الأجنبية في مصرف لبنان، أو عبر تحاويل من المصارف المراسلة في الخارج مخصّصة لتغذية الحسابات الجديدة بالدولار الأميركي.

- استعمال هذه الحسابات الجديدة حصراً لتسوية التّحاويل المصرفية الالكترونية الخاصّة بـ الأموال النّقدية ولتسوية مقاصّة الشّيكات بالإضافة إلى ملفّات Direct Debits وCredit Transfer التي يتمّ تداولها بـ الأموال النقدية.

- إيداع الأموال اللازمة في الحسابات الجديدة المذكورة أعلاه والعائدة للمعنيين المشار إليهم في المادة 2 من هذا القرار وذلك لضمان المؤونة الكافية بـ الأموال النقدية لنجاح عمليات التسوية في نظام (BDL -NPS).

الحصول على المزيد من الدولارات

بـ "العربي"، أي بلغة مفهومة بعيدة عن طلاسم الهندسات النّقدية، ماذا يَعني مصرف لبنان بهذه الإجراءات؟

يجيب شماس: "على كل مصرف يعمل في لبنان، راغب بالدخول في نظام (BDL -NPS)، أن يفتح في مصرف لبنان حساباً بالدّولار والليرة "الفريش" يضع فيه نقدياً ما يُحوَّل إليه من أموال بالعملتين الوطنية والأجنبية. ممّا يسمح لمصرف لبنان بإجراء المقاصّة على الدولار. ويصبح باستطاعة المودعين التعامل بالشيكات وبطاقات الدفع الإلكترونية، سواء كان بالليرة النقدية أو الدولار. وتبقى الأموال "محفوظة" في مصرف لبنان".

وهذا ما حصل بالضبط مع الودائع السابقة التي تبخّرت، ولم يبق منها إلّا أرقام على شاشات الحواسيب. فبحجّة التّخفيف من تداول الدّولارات النقدية في السوق، يرمي مصرف لبنان إلى الاحتفاظ بالدولارات النقدية. وللمثال فلنفترض أنّ مودعاً أراد أن يدفع لمودع آخر ثمن شراء أرض بقيمة مليون دولار بالشيك النقدي، فتتم البيعة ورقياً، وتبقى المليون دولار في المصرف المركزي بحجّة أعمال المقاصة. لكن هل المركزي سيحتفظ بهذه الأموال في خزنة جديدة أم سيتصرّف بها؟ "هذا بيت القصيد" يقول شماس. "فالمركزي حوّل العملة الورقية بالليرة والدولار إلى الكترونية من خلال طلبه من المصارف إصدار بطاقات ذكية إلكترونية كي يتم التبادل بـ "الفريش" دولار عبر البطاقات.

وكما الشيكات، فإنّ ظاهر هذا الطلب تجفيف الدولار النقدي، فيما باطنه الاحتفاظ بالدّولارات المحوّلة في المصرف المركزي. وفي حال تغيّرت الظروف وطالب العميل بمبلغ المال سيقول له المصرف أنّ الاموال موجودة في مصرف لبنان، ونكون بذلك أمام لولار رقم 2.

التّصرّف بالأموال

من يضمن ألّا يتصرّف المصرف المركزي بهذه الأموال، وماذا يحصل في حال استعملها لإقراض الدولة، أو لشراء الفيول، أو للدفع على منصّة صيرفة للموظّفين... وهلمَّ جرَّا من تدابير؟ فنكون بذلك أمام لولارات جديدة. من هنا يقول شماس "يجب أن يترافق هذا التعميم مع ضمانة من المركزي تؤكّد عدم استخدامه هذه الدولارات لأيّ غرض من الأغراض. لكن مع الأسف فإنّ مثل هذه الضمانات غير موجودة. والدّليل أن المصرف المركزي يستخدم أموال التوظيفات الإلزامية، التي يفترض به عدم المسّ بها". وعليه يشدّد شماس "على وجوب ضمان المركزي تسليم الدولارات نقداً في أي وقت يطالب المصرف بها. قبل أن يعود ويستذكر أنّ هذا المبدأ البديهي في طريقة عمل النظام المصرفي، جرت استباحته خلال السنوات الماضية. ما يجعل من الضمانات التي قد تعطى، غير مضمونة.

التعميم و"الكابيتال كونترول"

الخطورة الثانية، والكبيرة لهذا التعميم، تتمثّل في إمكانية صدور "كابيتال كونترل" يشمل الأموال الطازجة. الأمر الذي يثير الخشية من تجفيف الدولارات "الفريش"، بهدف الضغط لتخفيض سعر الصّرف إلى مستويات قياسية، لكن على حساب المودعين مرة جديدة. هذا عدا عن أن هذه المبالغ ستخضع لاقتطاع 14 في المئة كاحتياطي إلزامي، سيشبه مصيرها مصير الـ 15 مليار دولار التي كانت موجودة في خزائن المصرفي وتَدنّت راهناً عن 9 مليار دولار.

هذا القرار الذي يعرّض بحسب المادة 11 منه أيّ مصرف يتقاعس عن القيام بواجباته المفروضة للعقوبات الإدارية المنصوص عليها في المادة 208 من قانون النّقد والتّسليف، يوَاجه برفض مطلق من قبل المصرفيين. فـ "من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب"، على حد توصيف أحد المصرفيين الذي فضل عدم الكشف عن اسمه. "لأن المصرف المركزي سـ "يأكل حصرم" الدولارات "الفريش" من جديد، والبنوك سـ "تضرس" بالتعرّض للمقاضاة والهجمات من قبل المودعين.