يتحكّم عادة في سعر صرف العملات عاملان أساسيان، هما: العرض والطلب، والثقة. فالعملة كأيّ سلعة أخرى يتراجع سعرها عندما ينخفض الطّلب عليها ويزيد عرضها. وتفقد العملة قيمتها أيضاً عندما تختلّ سمعتها.
يستعين بعض اللبنانيين، بتوقّعات المنجّمين لمعرفة مصير العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي. معذورون هم في شطحاتهم الفلكية هذه. إذ عدا عن الميل الفطري للشعوب البائسة إلى تكذيب الوقائع والهروب نحو تصديق الغيب للشعور بالراحة النفسيّة الزائفة، يظهر سعر الصرف أنّه تحوّل إلى أحجية. وهو يعاكس أحياناً كثيرة المحاكاة العلمية، والتوقّعات الرقمية، ويتوافق مرحلياً مع "طلاسم" المركزي والطغمة السياسية. فيخيب آمال المواطنين، ليس لرغبتهم في تراجعه، بقدر تعطّشهم للمضاربة وتحقيق الأرباح.
يتحكّم عادة في سعر صرف العملات عاملان أساسيان، هما: العرض والطلب، والثقة. فالعملة كأيّ سلعة أخرى يتراجع سعرها عندما ينخفض الطّلب عليها ويزيد عرضها. وتفقد العملة قيمتها أيضاً عندما تختلّ سمعتها. والعاملان ضربا الليرة اللبنانية بقوّة. فعرض الليرات (العملة في التداول + الودائع بالليرة تحت الطلب = M1) زاد من 11237 مليار ليرة في مطلع أيلول 2019، إلى 89892 مليار ليرة في نيسان 2023. أي أنّ الكتلة النقدية بالليرة زادت بحدود 8 أضعاف خلال أقلّ من 4 سنوات. أما في ما يتعلق بالثّقة، فقد فقدت الليرة دورها كأداة للادخار مع خسارتها نحو 98.5 في المئة من قيمتها منذ بداية الأزمة، وخسرت دورها كوسيلة للتبادل بعد دولرة الأسعار. في المقابل ارتفع الطّلب على الدولار تلقائياً نتيجة انهيار الليرة وسعي المواطنين للحفاظ على مدخّراتهم، من جهة. وزادت من الجهة الأخرى الحاجة إليه مع استمرار عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات، المدفوعان بحجم استيراد ناهز 20 مليار دولار في العام 2022. ومن الطبيعي أن "تطبش" كفّة الدولار، بقوّة، مقابل الليرة على ميزان سعر الصرف طوال الفترة الماضية. لكن ماذا عن الفترة المقبلة، فهل يستأنف الدولار مشواره التصاعدي أم يبقى يراوح في معدلاته الراهنة بين 90 ومئة ألف ليرة؟
الاستقرار المرحلي مردّه إلى تدخل المركزي
من الواضح أنّ الاستتباب الذي حصل في سعر الصرف منذ 22 آذار، تاريخ فتح مصرف لبنان سقف التحويل للأفراد والشركات من الليرة إلى الدولار، ولغاية اليوم، مردّه إلى تدخّل المركزي بائعاً للدولار على منصّة صيرفة. حيث ناهز حجم التداول على المنصّة خلال هذه الفترة 1.3 مليار دولار وبمتوسط تبادل يومي بقيمة 75 مليون دولار. وذلك بالمقارنة مع حجم تداول لم يتجاوز 20 مليونا في الفترة الممتدة بين منتصف كانون الثاني ومنتصف آذار، عندما حلّق سعر الصّرف إلى حدود 150 ألف ليرة. وعليه يصبح من البديهي القول إنّ استمرار تدخل مصرف لبنان بائعاً للدولار، بعيداً عن بقية العناصر، سيُبقي سعر الصرف ملجوماً، وتوقّفه عن بيع الدولار سيعيد الدولار إلى الارتفاع. ولكن السؤال هل يملك المركزي هذه القدرة، وما مدى الوقت الذي باستطاعته تحمّله، وبأي كلفة؟
أسباب الاستقرار
من الناحية النفسية يرى خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي أنّ "أحداً لا يريد تصديق إمكانية استقرار أو حتى تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار. والكلّ ينجرّ وراء التحاليل التي تتوقع معاودة الدولار صعوده بعد انتهاء الأعياد. أمّا منطقياً فيرى فحيلي أنّ الطلب على الدولار يشهد تراجعاً ملحوظاً لخمسة أسباب رئيسية:
- الأوّل، يتعلّق بالتّسعير بالدّولار، بدءاً من الإنتاج مروراً بالاستهلاك ووصولاً إلى دولرة جزءٍ كبيرٍ من الرواتب والأجور، هو الأمر الذي خلق دورة تجارية تقوم على التبادل النّقدي بالعملة الصعبة من دون الحاجة للمرور بالصرّافين.
- الثّاني، امتلاك معظم المؤسّسات التجارية والإنتاجية مصدر إيرادات وافر بالدولار من خارج لبنان.
- الثالث، إنفاق السيّاح والمغتربين الوافدين إلى لبنان في هذه الفترة التي تزامن فيها عيدي الفصح والفطر، وتحويلاتهم إلى ذويهم للمعايدة.
- الرابع، التدفّقات النقدية غير النظامية بالدولار، أي غير المحتسبة، والناتجة عن تعمّق الاقتصاد الأسود والتهريب والاعمال غير الشرعية.
- الخامس، عرض المتوفر من دولار من المدخّرات بالعملة الأجنبية الموجودة بالخزنات الحديدية في المنازل والمقدّرة بمليارات الدولارات عندما يرتفع سعر الصرف.
التوازن الاقتصادي يحمي سعر الصرف
وعليه، لم يبق من المجبورين على تمويل فاتورة الاستهلاك بالليرة اللبنانية إلّا فئة قليلة جدّاً من العمّال الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم أو جزءاً منها بالليرة، والموظفين الذين يصرفون رواتبهم التي تقاضوها على سعر صيرفة، للاستفادة من هامش الفرق بين سعر المنصّة وسعر السوق المقدرة نسبته حاليا بحوالي 11 في المئة. وأيضاً بعض المواطنين الذين تصلهم التحويلات الخارجية ويفضّلون تمويل جزءاً من فاتورتهم بالليرة. كلّ هذه العوامل تمنع بحسب فحيلي "العودة إلى الارتفاع الجنوني بالدولار، حتى مع الزيادة المقرّة على الرواتب بعشرات آلاف المليارات من الليرات. فمصرف لبنان يمتلك على المدى القصير المخزون الكافي للتدخّل بائعاً للدّولار في الأيام المقبلة على منصة صيرفة. أمّا على المدى الطويل فإنّ دولرة الاقتصاد وفّر كتلة وازنة من العملة الصعبة بالمقارنة مع حجم الناتج المقدّر بـ 18 مليار دولار. وهي ستساعد مصرف لبنان في المرحلة المقبلة على شراء الدّولار بكلفة تتراوح بين 90 و100 ألف ليرة حتى مع إقرار الزيادات". وبرأي فحيلي فإنّ "الاقتصاد يتّجه إلى فرض نوع من التوازن بين الأموال المتوفرة والطلب على السلع. الأمر الذي يُبعد الضغوط التضخّمية التي تؤدي إلى ارتفاع الدولار. وما لم يحتج المركزي إلى دولارات إضافية بشكل استثنائي وبطريقة مفاجئة، فإن تغيّر قواعد الاشتباك ستسمح له بشراء الدولار بكلفة منخفضة نسبياً ولن تدفعه بصفته المضارب الأكبر، إلى رفع السّعر للمّ الكمّية التي يحتاجها في الوقت الذي يريد".
لكن هل تؤدي هذه المعطيات إلى إمكانية انخفاض الدولار؟
يجيب فحيلي: "أنه إذا ترافقت هذه المعطيات مع تطورات سياسية إيجابية من قبيل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، ومن ثم الانتقال إلى الإصلاحات المطلوبة فإنّ السّعر سيميل حتماً نحو الانخفاض".
على الرغم من الايجابيات المصطنعة، وغير المستدامة فإنّ الخشية تبقى في لبنان من المجهول. فالتّطورات النقدية السياسية والأمنية قد تنقلب في لحظة إلى بالغة السوء، جارّة معها سعر الصرف إلى المزيد من الانهيار.