خالد أبو شقرا
باءت محاولات العديد من الجهات اللبنانية الداعية إلى إطفاء الخسائر المصرفية من الأصول العامة، بالفشل. فالمرور من بوابة صندوق النقد الدولي يحتّم على لبنان اتّباع مسار "تراتبية المسؤوليات والخسائر"، الذي نصح به منذ بدء الازمة، ولا زال لليوم مصرّاً عليه. والمسار يقضي، باختصار، بضرورة حماية صغار المودعين، وتحمّل الكبار للخسائر.
عبثاً حاول البعض انتزاع موقف مغاير من رئيس بعثة "الصندوق" أرنستو راميراز ريغو، خلال المؤتمر الصحافي الختامي لجولة البعثة التفقدية قبل أيام. وقد واجه سيل الأسئلة المتعلقة بالظلم الذي سيلحق بالمودعين والاقتصاد نتيجة تبرئة ذمة الدولة من "جرم" هدر المليارات على مدار السنوات الطوال، بأجوبة علمية. معتبراً أنه لا يجوز التعويض عن فئة المودعين من حقوق كل اللبنانيين. مضيفا أن أخطار هذه الآلية لن تقتصر على الأجيال الحالية، أنما ستمتد إلى الأجيال القادمة. وعمّا يتعلق بالودائع الكبيرة التي تعود للنقابات، وصناديق التعويضات، والمستشفيات، والمؤسسات الاجتماعية... لفت راميراز ريغو إلى أن "الأمر يتطلّب معالجة كل حالة بحالتها. إنما المبدأ هو بضمان حماية صغار المودعين".
شطب الودائع
موقف صندوق النقد الدولي من آلية توزيع الخسائر في لبنان، المقدرة بالخطة الحكومية بـ 72 مليار دولار، هو القاعدة وليس الاستثناء. فالمبدأ ألّا تستعمل أصول الدولة للتعويض عن الخسائر المحققة في القطاع المالي لأربعة أسباب رئيسية:
- عدم كفاية هذه الأصول لتعويض الخسائر الهائلة في النظام. خصوصاً باعتماد الطريقة التي اقترحتها جمعية المصارف في منتصف العام 2020، كردّ على الخطة الحكومية، والتي تقضي بوضع الأصول القيمة كالواجهة البحرية والشركات الفاعلة والكازينو... وغيرها في صندوق سيادي. على أن يخصّص جزء من الأرباح للتعويض على المودعين.
- ضرورة استغلال هذه الأصول بكفاءة من أجل تأمين متطلبات النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.
- عدم جواز التعويض على المودعين بشكل شبه كامل، ولو بالوعود، مقابل إعادة جدولة الديون بالعملة الصعبة "يوروبوندز" المقدّرة قيمتها مع الفوائد بحوالي 38 مليار دولار، وذلك من خلال إعطاء الدائنين 20 إلى 30 سنتاً على الدولار.
- ضرورة المحافظة على استدامة الدين، ولاسيما الجديد الذي سيقترض من صندوق النقد.
بدا واضحاً في بيان الصندوق الختامي تحفّظه على إضافة الحكومة "صندوق استرداد الودائع"، من العوائد المستقبلية للمؤسسات العامة إلى الخطة. وكما يظهر من تعليق الصندوق أن الإضافة أتت من دون التنسيق معه، على عكس ما ادّعى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. فموقف الصندوق واضح لجهة "شطب الودائع، ولو لم يقلها بصريح العبارة"، يقول رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية والخبير السابق في صندوق النقد الدولي الدكتور منير راشد. ولكنه يموه الفكرة بعبارات "إطفاء خسائر المصارف في مصرف لبنان. أي شطب موجوداتها في المركزي المقدرة بـ 72 مليار دولار. ما يعني القضاء على رساميل المصارف وودائعها، وبالتالي على كل البنوك الموجودة".
صندوق استرداد الودائع
ما يزيد من يقين صندوق النقد الدولي برفض فكرة إنشاء صندوق استرداد الودائع هو أنه قائم على فكرة التعويض على المودعين من فائض الإيرادات. وقد سبق لنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي أن أعرب قبل فترة أن تحقيق فائض من الإيرادات بقيمة مليار دولار يتطلب 72 سنة لرد كل الودائع. هذا مع العلم أن رد هذا المبلغ بقيمته الحقيقية على مدار الأعوام الطوال يتطلب رد 200 مليار دولار ذلك أن الأموال تخسر قيمتها مع مرور الزمن. ولو سلّمنا جدلاً تفهّم الصندوق لمثل هذا الاقتراح فهو لن ينهض بالاقتصاد بأي شكل من الاشكال.
حل وسطي مقترح
على النقيض من خطة الحكومة وموقف صندوق النقد الدولي والجهات الداعية إلى تحمل الدولة الخسائر، فإن الحلّ لا يتمثل، "لا بشطب الودائع ولا بردِّ الودائع"، يقول راشد. "فما يُطرح هو خطأ مبدئي قبل أن يكون محاسبي. إذ لا يوجد أي جهاز مصرفي في العالم قادر على رد الودائع كاملة، كما لا يوجد دولة، مهما عظم شأنها، قادة على رد كامل ديونها. فالمشكلة إذاً، تتعلق بتوفر السيولة لخدمة المودعين والدين. وهذا بالضبط ما نفتقد إليه. ولو توفر 10 مليارات دولار فقط في المصارف، في ظل جو من الثقة، تنتفي الحاجة إلى الخلاف حول توزيع الخسائر. خصوصاً أن معظم الودائع ادّخارية.
ومن أجل التوصل إلى حل منطقي يفيد الاقتصاد والمودعين والمواطنين على السواء، يقترح راشد خطة بديلة تقوم على الأفكار الأساسية التالية:
- تحرير سعر الصرف بالكامل وحصر تدخل البنك المركزي في سوق القطع إلى الحد الأدنى لإضفاء الثقة في الأسواق. وهو الأمر الذي يوفر السيولة حيث تتم السحوبات من المصارف بالدولار أو بالليرة على سعر الصرف الحقيقي.
- إفساح المجال أمام المصارف للتعامل في سوق القطع. ما يعزز سيولة المصارف بالعملة الأجنبية.
- تأمين التوازن المالي في الموازنة، مع ما يفرضه الأمر من تحسين الإيرادات العامّة. وهذا ما يؤمّنه البند الأول، أي تحرير سعر الصرف.
- انتفاء حاجة المركزي للاحتفاظ بالتوظيفات الإلزامية، التي تشكل 14 في المئة من مجمل الودائع بالعملة الأجنبية، وتقدّر قيمتها اليوم بين 9 و10 مليار دولار. فيتم إرجاعها للبنوك.
- إعادة جدولة موجودات (القروض)، ومطلوبات (الودائع) المصارف، كأن يوضع 20 في المئة من الوديعة على فترة 6 أشهر في الحساب الجاري والباقي لمدة عامين... كذلك الأمر تجدول القروض على فترة زمنية محددة.
- خصخصة إدارة المؤسسات في القطاع العام لتحسين خدماتها وزيادة إيراداتها بمناقصات عالمية شفافة، وفي ظل وجود دولة تتمتع بقضاء مستقل وأمن مستتب.
- إدراج أسهم هذه الشركات التي تدار بطريقة شفافة في بورصة بيروت. وتحدد الملكية الفردية بنسبة 2 في المئة لمنع الاحتكار.
المجال كما يظهر ما زال مفتوحا أمام الكثير من الحلول المنطقية والعلمية في آن، إلّا أن كل ذلك قد يذهب هباءً ما لم يتوفر عنصر الثقة.