خالد أبو شقرا

يحلو للمنظومة اللبنانية ممارسة لعبة "القط والفأر" مع صندوق النقد الدولي، تتعهد أمامه بانتظام العمل والإصلاحات، وتنكث بوعودها وتتحايل على شروطه ما أن يدير ظهره. اللهو الذي استساغت السلطة ممارسته بأبشع صوره منذ توقيع الاتفاق مع "الصندوق" على مستوى الموظفين في نيسان 2022، انتقل هذه المرة إلى مستويات خطيرة. ففي الوقت الذي كان يصدح فيه صوت رئيس بعثة الصندوق التفقدية من فندق فينيسا بضرورة "توخّي الصرامة في منع تمويل البنك المركزي للقطاع الحكومي"، كان رئيس الحكومة يتعهد أمام الموظفين بنفقات باهظة، وعلى نفقة "صيرفة". 

كثيرة هي ومكررة الملاحظات التي أبدتها بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت لبنان في الفترة الممتدة من 15 حتى 23 آذار 2023، لإجراء المشاورات وتقييم الوضع الاقتصادي ومناقشة أولويات السياسات. فالتقدّم بالإصلاحات الهيكلية المُتعهد بها محدود. وقانون تعديل السرّية المصرفية الذي أقر مؤخراً منقوص. و"الكابيتال كونترول" المزمع عرضه على الهيئة العامة للبرلمان لا يلبّي المطلوب. ومستويات التضخم والبطالة المرتفعان يثيران القلق. والعجز في الحساب الجاري يتوسع. والقطاع المالي فاقد للرأسمال والسيولة، بعبارة أخرى (مفلس). وتعاميم مصرف لبنان تفسح المجال أمام تعدّد أسعار الصرف، ما يعمّق المضاربة. الانكماش الاقتصادي منذ بداية الأزمة بلغ 40 في المئة، واستمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بالتضخم المفرط. حماية صغار المودعين هي الأولوية ومسؤولية الفجوة النقدية تقع على عاتق المصارف. عدم جواز استخدام أصول الدولة لإطفاء الخسائر... باختصار، لم يتحقق شيء منذ ثلاث سنوات، الأمر الذي وضع لبنان عند "مفترق طرق خطير، وبدون الإصلاحات السريعة سيغرق في أزمة لا نهاية لها"، جملة وضعها صندوق النقد بالخط العريض في خلاصة التقرير. وفي مقدمة هذه الإصلاحات: "توقف مصرف لبنان عن تمويل عجز الخزينة ونفقات القطاع العام".

التنكر لشروط الصندوق مستمر

رغم كل التحذيرات تستمرّ الحكومة اللبنانية بالاقتراض من مصرف لبنان بالليرة اللبنانية والدولار بطريقتين:

  • الأولى، عبر سلف الخزينة. وهي تستند بذلك إلى المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تجيز في "ظروف استثنائية الخطورة او في حالات الضرورة القصوى الاستقراض بشروط". ورغم عدم التزام الحكومة بالشروط، وقفزها فوق المادة 90 من قانون النقد والتسليف التي تنصّ على أنه "باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89 فالمبدأ أن لا يمنح المصرف المركزي قروضا للقطاع العام". أقرّت منذ بداية هذا العام سلفتي خزينة للكهرباء بقيمة 116 مليون دولار لشراء الوقود وصيانة الكهرباء. كما أقرت 1050 مليار ليرة يحولها مصرف لبنان إلى الدولار على سعر صيرفة لقطاع التربية.
  • الثانية، عبر تحويل رواتب القطاع العام إلى الدولار على سعر منصة صيرفة الذي يقل عن سعر الصرف الحقيقي بنسبة تتراوح بين 20 و50 في المئة. ما يشكل خسارة للمركزي الذي يعمد إلى شراء الدولار من السوق. أو يستخدم ما تبقى من توظيفات إلزامية لتمويل هذه العملية.

عجز الموازنة أكبر من المصرح به

صندوق النقد رأى أن تداعي إيرادات الموازنة قد دفع إلى تنفيذ تخفيضات هائلة وغير منتظمة في الإنفاق العام إلى أدنى المستويات. ومع ذلك، تعتمد الحكومة على التمويل من البنك المركزي، ومراكمة المتأخرات، وبعض المساعدات من المانحين لدعم عجز الموازنة في حدود تزيد قليلاً على 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وكان من الممكن أن يتجاوز العجز هذا المستوى، إذا تم إدراج العمليات شبه المالية العامة التي يواصل البنك المركزي تنفيذها - مثل توفير النقد الأجنبي بأسعار مدعومة. وعليه "سوف يتعين أن يكون التدخل في سوق الصرف محدوداً للغاية ويقتصر فقط على أغراض معالجة الخلل في أوضاع السوق".

الاستقراض مستمر

في الوقت الذي كان يشدد فيه رئيس بعثة صندوق النقد أرنستو راميراز خلال المؤتمر الصحافي يوم أمس على هذه النقطة، كان رئيس الحكومة يعد بإعطاء زيادة على رواتب وأجور وتعويضات العاملين والمتقاعدين في القطاع العام، في الجلسة الحكومية المزمع عقدها مطلع الأسبوع المقبل. وبحسب المعلومات المتوافرة فإن الزيادات ستأتي على شكل بدل إنتاجية تدفع بالدولار على سعر صيرفة، على الشكل التالي:

- 300 دولار لموظفي الفئة الاولى.

- 250 دولار للفئة الثانية.

- 200 دولار للفئة الثالثة.

- 150 دولار للفئة الرابعة.

- و100 دولار للفئة الخامسة.

وبما أن الموظفين لم يحضروا هذا الشهر، فسيحصلون على راتب إضافي على سعر صيرفة. أما بدل النقل فسيكون 5 ليترات يومياً للموظفين وليترين ونصف للعسكريين ما دون رتبة ضابط. وسيخصص للعسكريين المتقاعدين راتبان في الشهر على أن تتم تغذية صندوق الطبابة لقوى الأمن الداخلي.

التمويل بالتضخم

"يكفي القول إن هذا الاجراء إذا تم اعتماده كما جرى تسريبه، سيكلّف عشرات آلاف المليارات التي ستُدفع إما من الاستدانة وإما من طباعة النقود"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال، "وفي الحالتين سنغرق أكثر في دوامة الانهيار".  وبحسب رمال فإن "القرارات التي تتخذ ارتجالياً تَحل مشكلة على المدى القصير، وتخلق 10 مشاكل على الأمدين المتوسط والطويل. ما يدفعنا للقول عن قناعة أنه لو تركت الأزمة من دون تدخل بمثل هكذا قرارات لما كنّا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم".

يقدّر عدد الموظفين بين فاعلين ومتقاعدين، في إدارات الدولة ومؤسساتها ومدارسها وبلدياتها وأجهزتها الأمنية، بحدود 420 ألف موظف. ما يقارب 320 ألفا في الخدمة الفعلية والباقي في التقاعد. وإذا احتسبنا فقط رفع بدل النقل من 95 ألف ليرة شهرياً، إلى 5 صفائح بنزين للفاعلين بكلفة 500 ألف ليرة، وليترين ونصف للعسكريين الأفراد دون رتبة مؤهل، فإن الكلفة الإجمالية لن تقلّ عن 2000 مليار ليرة. وعلى الرغم من أحقّية هذه الزيادات إلا أنّها "ستمول من التضخم"، بحسب رمال. الأمر الذي سيؤدي إلى امتصاص مفاعليها في وقت قياسي، وتركها لآثار سلبية على عمل القطاع الخاص. فـ "الأخير مقيّد نتيجة شلل القطاع العام. وإن كان لا يمكن إلقاء اللوم على موظف القطاع العام نتيجة عجزه الواضح، على أقل اعتبار، عن الوصول إلى مركز عمله، إلّا أن الزيادة العشوائية على الرواتب في ظل هذه الظروف خطيرة. وكان الأجدى أن تُستبق بإعادة هيكلة القطاع العام، الذي يعتبر واحداً من أهم مطالب صندوق النقد الدولي". وعليه كلّما تأخرنا في تنفيذ الإصلاحات كلما أصبح الخروج من المأزق أصعب. ولعل هذا ما عبر عنه رئيس بعثة صندوق النقد بوضوح بقوله "إن لبنان عند مفترق خطير جداً". والظاهر بحسب رمال "أننا سنسلك الطريق المدمّر".

تجدون هنا التقرير الكامل لبعثة صندوق النقد الدولي