أمين قمورية
حكومة نتنياهو- بن غفير، تفعل ما تفكّر به، لا تخبّئ وجهها خلف ستار واهٍ، وهي لا تفوّت مناسبة، إلّا وتغتنمها لتكرّس نفسها كأكثر حكومة متطرفة في تاريخ الدولة الصهيونية منذ قيامها عام 1948 .
فلسطينياً، أفصحت هذه الحكومة في بيانها الأول عن نواياها تجاه الضفة الغربية والقدس الشرقي، بالتأكيد على الحقوق القومية لليهود "في جميع أنحاء أرض إسرائيل" ، أي أنها ان تكتفي بتوسيع المستعمرات الحالية، بل بإطلاق ورشة الاستيطان والتهويد في كل الأراضي المحتلة عام 1967. وقد طالب بعض وزرائها بإسقاط السلطة الفلسطينية وإنهاء الكيانية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني المحتل، أو أن يقتصر دورها على "حماية أمن دولة إسرائيل فقط" كما يردد وزير الأمن القومي بن غفير. ويترافق ذلك مع اعتداء على البشر والحجر لايفرّق بين المسلمين والمسيحيين لاسيما في القدس، حيث المسّ بالمقدسات لاسيما المسجد الأقصى، بات يمهّد لانتفاضة كبرى تشمل كل فلسطين التاريخية أو حرب دينية لا يمكن التكهن بنتائجها. الأمر الذي أثار قلق الإدارة الأميركية .
إسرائيليا، هكذا حكومة لا بدّ أن تسعّر الصراع الداخلي على هوية الدولة الصهيونية بين العلمانيين والمتدينين. وفي ظل القيادة المتطرفة لعتاة المستوطنين التي تصدرت المشهد السياسي الإسرائيلي، فإن المواجهات قد تفتح على مصراعيها ليس فقط مع أهل الأرض الفلسطينيين الذين بلغ عددهم هذا العام أكثر من سبعة ملايين نسمة، بل أيضا ضد الإسرائيليين المصنّفين ليبراليين وعلمانيين وإصلاحيين وغيرهم. وسريعا ما دفع ذلك بأركان المعارضة اليمينية العلمانية الصهيونية، لا سيما بني غانتس ويئير لبيد للدعوة إلى إسقاط الحكومة بسبب مشاريعها الخاصة بالقضاء الصهيوني ومناهج التعليم. وانطلقت ضدها تظاهرات في القدس وحيفا وتل أبيب، وصدرت دعوات لمقاطعة التلاميذ للمدارس وإعلان العصيان المدني. وبات يتردد على ألسنة الجنرالات والموظفين الكبار، والوزراء السابقين والقضاة، عبارات مثل انقلاب على الديمقراطية، حكومة فاشية، دولة دينية، حرب أهلية، تمرّد، عصيان. وعلائم القلق العميق في قلب مجتمع الاحتلال عبّر عنها صراحة رئيس نقابة المحامين الإسرائيليين آفي حيمي الذي قال أنهم "يريدون تحويلنا إلى دكتاتورية، ويريدون تدمير الديمقراطية، يريدون تدمير السلطة القضائية".
وهكذا فإن صورة "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط راحت تتداعى لدى بعض الغربيين لتحلّ مكانها صورة حكم عنصري وفاشي. واستدر الخوف على "ديموقراطية" دولة الاحتلال تعاطف الليبراليين في العالم والغرب خصوصاً. وصار الكلّ يخاف على إسرائيل من إسرائيل نفسها. وأعربت وسائل الإعلام الأميركية عن قلقها بهذا الشأن، ورأت وكالة “أسوشيتد بريس” أن الحكومة اليمينية الجديدة “تدفع إسرائيل إلى صدام وشيك مع أقرب حلفائها، وفي مقدمهم الولايات المتحدة والمجتمع اليهودي الأميركي". وترى الإدارة الأميركية أن سياسة إسرائيل تضعها في مأزق متزايد، لا سيما في ما يتعلق بمسألة أميركية داخلية؛ إذ يتصاعد انتقاد إسرائيل في أوساط الديمقراطيين الشباب يومًا بعد يوم. وأعلن أكثر من 300 حاخام أميركي عن قطع الاتصالات كافة مع أعضاء الحكومة الإسرائيلية الجديدة، تأكيدًا لإعراض المجتمع اليهودي الأميركي المتزايد عن سياسات إسرائيل، وهو موقف يتبناه اليهود الشباب في المقام الأول، الذين يرون أن سلوك “الدولة اليهودية” يصبح أكثر ترويعًا يومًا تلو الآخر.
لكن في الواقع، فإن التدقيق في طروحات المجموعة الصهيونية الحاكمة الجديدة، يظهر أنها الأكثر صدقاً ووضوحاً وانسجاماً مع طروحات الآباء المؤسسين، وهي في الواقع تعرية لتلك الطروحات. ذلك أن بن غوريون قرّر مرة تسميم الآبار والمياه في مناطق الفلسطينيين، وغولدا مائير نفت وجود شعب فلسطيني، وجابوتنسكي كان صاحب نظرية السور الحديد، وجزار صبرا وشاتيلا آرييل شارون صار رئيساً للوزراء. أولئك، ولاسيما ممن كانوا في حزب العمل، كانوا يتحايلون بالتلطي خلف قيم الاشتراكية الدولية الاستعمارية، ويرتكبون في الوقت نفسه المجازر، هؤلاء لا يحتاجون إلى التمويه في زمن دونالد ترامب واليمين المتطرف الذي يجتاح أوروبا.
الذين يخافون اليوم في الغرب على الديموقراطية في إسرائيل، هم أنفسهم الذين يصمتون على آخر احتلال استعماري في العالم في فلسطين، ويغضّون الطرف عن مقتل الأطفال في غزة واليمن وسوريا والسودان والعراق.
خوف الغرب على إسرائيل، يجب أن يكون خوفاً منها، ومن ترسانتها النووية والعسكرية. فهي وحسب كل المصادر الموثوقة تملك أكثر من 250 رأساً نووياً وخزيناً هائلاً من الأسلحة المدمّرة الذي تشكّل على مدى عقود طويلة بتمويل هائل أميركي وأطلسي. الولايات المتحدة خصصت مساعدات عسكرية لإسرائيل بمبلغ 30 مليار دولار للفترة (2009 - 2018). وفي الفترة من (2019 - 2028) تم تجديد سياسة الرئيس السابق باراك أوباما بالتزام مساعدة سنوية بمبلغ 3.8 مليار دولار بإجمالي 38 ملياراً. هذا التسلّح ليس خافياً على الدول الغربية والأطلسية، لأنها هي من أمدّت إسرائيل به ودرّبت جنودها عليه. هذا التسلّح لا يشكّل فقط خطراً على الدول العربية بعدما ركب العديد منها قطار التطبيع، ولا حتى على الدول الإقليمية الأخرى، بعدما تفوق نوعياً وتقنياً ولوجستياً على كل من حوله. هذا السلاح ولاسيما النووي منه بات خطراً على الغرب والدول الأطلسية نفسها وأداة ابتزاز سياسي للعواصم الكبرى من فوق الطاولة وتحتها، لا بل صار مادة للكسب المادي السريع عبر إفشاء أسرار الأسلحة المتطورة أو بيعها لدول أخرى وبعضها على خصام مع الغرب مثل الصين أو روسيا. فقد اكتشفت وكالة الاستخبارات الأميركية عام 1999 أن إحدى تقنيات الليزر التي زوَّدت بها واشنطن إسرائيل نُقِلَت إلى الصين، كما ساعدت إسرائيل الصين على تطوير المقاتلة "جي-10″، وهي استنساخ لمقاتلة إسرائيلية بمحرك أميركي طُوِّرت في ثمانينيات القرن الماضي تحت إسم "لافي". وهذا ليس إلّا فيض من غيض.
صحيح أن المؤسسة العسكرية الأمنية لا تزال ضابطاً للميزان السياسي في الدولة الصهيونية، لكن هذا الكيان لم يعرف الاستقرار السياسي منذ سنوات، ويشهد انتخابات عامة مبكرة كل بضعة أشهر، وتتكاثر فيه الأحزاب كالفطر وتتغير وتتبدل فيه التحالفات بين ليلة وضحاها، ويشتد في الانقسام ما بين يمين ديني ويمين متطرف ويسار ضعيف، وما بين علماني ومتزمت، وما بين صهيوني ويهودي، وما بين اشكيناز وسفرديم، فكيف للعالم أن يطمئن ويرتاح وزمرة متطرفة مجنونة حاكمة تتحكم بخامس قوة نووية ومتخمة بأحدث أنواع الأسلحة والعقول الإجرامية ؟